فلأول مرة ستتعامل مع وضعية يكون فيها الطرف المقابل، والذي أصبح يتبوأ مقاليد السلطة، حركة كانت تصنف "كجماعة إرهابية" في السابق. وتتجسد المعضلة في محاول التوفيق من قبل هذه الشركات ما بين مبادئ حرية التعبير، والحق بالوصول إلى المعلومة، ومكافحة خطاب الكراهية والحض على العنف، وأخيراً وليس آخراً شرعية استخدام الخدمة ومدى مطابقة اللوائح الداخلية على طبيعة المستخدم.
وقد عكس التباين في موقف بعض كبريات شركات السوشيال ميديا مع الحركة هذه المعضلة بشكل واضح. فبينما اتخذت شركة فيسبوك موقفاً متشدداً تجاه الحركة من خلال حظرها على منصاتها، كان موقف تويتر أكثر تساهلاً، فالمتحدث باسم طالبان، ذبيح الله مجاهد، لديه حساب نشط على تويتر مع أكثر من 300 ألف متابع.
هذا الموقف على سبيل المثال جاء معاكساً لموقف الشركتين من الرئيس السابق دونالد ترمب في أعقاب الهجوم الذي شنه أنصاره على مبنى الكونغرس في ما بات يعرف بهجوم "الأربعاء الأسود" في يناير/كانون الثاني 2021، حيث قامت شركة تويتر بحظر الرئيس نهائياً عن التغريد على منصتها، في حين خضع لتقييم مستمر من شركة فيسبوك، الأمر الذي يعني أن الحظر الذي فرض عليه قابل للرفع في حال أثبتت الشركة أن منشورات ترمب لم تعد تنتهك واحدة من القيم التأسيسية للشركة. ولذلك لا عجب أن يخرج الرئيس السابق ترمب وينتقد هذه الشركات من خلال سماحها "لجماعة إرهابية" بالتعبير في الوقت الذي تحرمه، وهو الرئيس السابق للولايات المتحدة، من ممارسة الفعل ذاته.
استندت شركة فيسبوك لتبرير عملية الحظر الشامل التي مارستها ضد حسابات حركة طالبان أو الجهات التابعة لها إلى ذريعة أن الحركة مصنفة تحت بند الكيانات الإرهابية وفق قانون الولايات المتحدة، وفي الوقت الذي لا تعد حركة طالبان حركة إرهابية وفق لوائح وزارة الخارجية الأمريكية، فإنها كذلك وفق لوائح وزارة الخزانة الأمريكية وهو الذي اعتبرته شركة فيسبوك كافياً لكي تمارس هذه السياسة ضدها. وقد أكد الناطق باسم فيسبوك هذه السياسة عندما صرّح بأن "طالبان خاضعة لقانون العقوبات كمنظمة إرهابية وفق قانون الولايات المتحدة، ولذلك ووفقاً لقانون الشركة الداخلي والمعني بالمنظمات الخطرة فحركة طالبان تعتبر محظورة، وهذا يعني أن شركة فيسبوك معنية بإزالة الحسابات التابعة للحركة بشكل مباشر أو لأي جهة تتبع للحركة، كما يمنع نشر أي شيء من شأنه أن يتضمن دعماً لها أو ثناء عليها أو تمثيلاً لها"، مؤكداً في الوقت ذاته أن "للشركة فريقاً متخصصاً من الخبراء الإقليميين للمساعدة في تحديد المشكلات والتنبيه لها لاتخاذ الإجراءات اللازمة".
من جانبها، فإن الموقف الأكثر تساهلاً الذي اتخذته شركة تويتر تجاه حركة طالبان ظهر من خلال عدم توجه الشركة إلى سياسة الحظر الشامل، وإنما إلى سياسة المراقبة المتحيزة بمعنى مراقبة المحتوى الضار الذي يحض على الكراهية ويشجع على العنف. جوهر موقف شركة تويتر نابع من أن الحظر الشامل ربما يؤدي إلى أضرار جانبية تتمثل بحرمان المستخدمين العاديين من حرية الوصول إلى المعلومة، أو حرمانهم من طريقة آنية وفعالة لإيصال صوتهم إلى العالم والتبليغ عن الانتهاكات التي قد يجدونها.
وتأكيداً لهذه السياسة أورد بيان للشركة بأن "الوضع في أفغانستان يتطور بسرعة، ونشهد أشخاصاً في البلد يستخدمون Twitter لطلب المساعدة. الأولوية القصوى لتويتر هي الحفاظ على سلامة الناس، ونحن لا نزال يقظين. نحن نتخذ خطوات لحماية أصوات أولئك الموجودين في خدمتنا والذين يمثلون الجماعات المحمية، بما في ذلك العاملون في المجال الإنساني والصحفيون ومنظمات وسائل الإعلام الإخبارية ونشطاء حقوق الإنسان وغيرهم".
لقد كان التعامل مع حركة طالبان من قبل هذه الشركات في الوقت السابق لسيطرتها على أفغانستان يتسم بالوضوح. لقد كانت حركة طالبان تقاتل الأمريكيين، وتستعمل هذه المنصات لنشر البروباغندا الخاصة بها كما يرى العديد من المراقبين المحسوبين على الجهات الغربية. ولكن اليوم، تنتقل الحركة من جماعة مقاتلة إلى كيان سياسي يسيطر على مقاليد الحكم في البلد. هذا التحول الدراماتيكي من القتال إلى الحكم هو الذي لم تعهده شركات السوشيال ميديا، ولم تستطع إلى الآن مواكبته بشكل لا يضع المستخدمين في حالة من الإرباك والتشتت.
هناك العديد من المراقبين ينظرون إلى السياسات التي تتبعها هذه الشركة مع الحركة كعلامة على مدى القبول الدولي لها من عدمه. وهذا يدل على الأهمية التي باتت تضطلع بها هذه الشركات في عالم الدبلوماسية والسياسة. ولكن هذا لا ينفي حقيقة أن الكلمة الأخيرة في كيفية التعاطي مع الحركة سوف تكون متروكة للحكومات والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع الدولي. فإذا استطاعت حركة طالبان أن تثبت للمجتمع الدولي أنها جديرة بالحكم من خلال مراعاتها لحقوق الأقليات والمرأة وضمان الحريات المدنية الأساسية ستكون، وفق مبادئ هذا المجتمع، مستحقة للاعتراف الرسمي، وعندها ستكون مهمة هذه الشركات أسهل، فهي بذلك ستتعامل مع جهة رسمية تتمثل بحكومة تفرض سيطرتها على جميع مقاطعات البلد وتسيّر أموره.
على أن هذا الوجه الأول من الحقيقة. فطبيعة تعاطي هذه الشركات مع حركة طالبان سواء على اعتبار أنها حركة "إرهابية" مقاتلة، أو على اعتبار أنها الحكومة الرسمية للبلاد، لا ينفي حقيقة أن منصات التواصل الاجتماعي هذه قد أسيء استخدامها على نطاق واسع بما يهدد حرية التعبير وسلامة وخصوصية المستخدمين، سواء أكانت الجهات السياسية التي تستخدمها هي حكومات ديمقراطية أو أنظمة شمولية أو حركات مقاتلة.
فجميع هذه الجهات قد وجد في هذه الشبكات الرقمية ضالته لتعزيز روايته من خلال الاعتماد المتواصل والمستمر على الدعاية الرقمية عبر إنشاء جيوش من الحسابات الوهمية لبث الأخبار الكاذبة والمضللة، هذا فضلاً عن استخدامها في عمليات الرصد والمراقبة التي راح ضحيتها العشرات وربما الآلاف من المستخدمين على اختلاف ميولهم، سواء أكانوا ناشطين في الحركات الحقوقية أو صحافيين أو معارضين سياسيين أو غيرهم.
وهذا الأمر يعود بنا إلى المشكلة الحقيقية التي تواجهها البشرية مع هذه الشبكات. فبغض النظر عن جهة وآلية الاستخدام، فإن هناك مشكلة جوهرية تقع في صلب النموذج الاقتصادي Business Model لهذا الشركات. فهذه الشركات هي مؤسسات نيوليبرالية غايتها الربح وتعظيم رأس المال، تقوم باستثمار العائد الاجتماعي من خلال التلاعب بحاجات الناس وغرائزهم لزيادة مكتسباتها المالية، وذلك من خلال توجيه هذا الاستثمار نحو الدعاية والإعلان والتجارة الإلكترونية.
ما لم يُغيَّر هذه النموذج إلى نموذج غير ربحي ينحو إلى المبدأ التضامني وحماية الخصوصية في المقام الأول، فإن تضارب السياسات المتبعة مع جهة الاستخدام من قبل هذه الشركات لن يجدي نفعاً. فالمستخدم الضار سواء أكانت حكومة أم جماعة أم فرداً سوف يجد له ألف طريقة لتطويع النموذج الحالي لهذه الشركات لخدمة أهدافه الخاصة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.