تحوّلت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا من طلاق متحضّر عقب تفكّك الاتحاد السوفييتي، إلى حرب غير متحضّرة باستهداف المدنيين وتهجير اللاجئين، ودخلت أوروبا أسوأ أزمة تهدّد أمنَها القومي وحاجاتِها من موارد الطاقة منذ نهاية حقبة الحرب الباردة.
وأضحت حرب أوكرانيا في شهرها الثالث صراعاً ممتدّاً، تُعرف بدايته، ويصعب توقّع نهايته أو مدى تحوُّره في الأشهر المقبلة. وفي خطاب حماسي في الاستعراض السنوي ليوم النّصر (9 مايو/أيار) في السّاحة الحمراء في موسكو، للاحتفال بالذكرى السابعة والسبعين لانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، شدّد الرئيس بوتين على أن التدخُّل الرّوسي في أوكرانيا كان ضرورياً لأن الغرب "كان يستعدّ لغزو أراضينا بما فيها شبه جزيرة القرم".
من يقرأ استراتيجية بوتين بنظرية المقاصد؟
يزيد خطاب بوتين تعقيد هذه اللحظة في ربيع 2022 التي ترقى إلى مصافّ اللّحظات المفصلية في التّاريخ بموازاة انهيار جدار برلين، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية، أو الثّورة الفرنسية.
وتواصل العواصم الغربية مسعاها الحثيث لاستشراف الخطوة التالية في استراتيجية الرئيس بوتين بأكثر ما تنطوي عليه الحرب في أوكرانيا حتى الآن.
وتتزايد المخاوف في دول أخرى مجاورة مثل مولدوفا ورومانيا وبولندا، وحتى فنلندا والسويد اللتين تنظران في مدى الحاجة إلى طلب عضويتهما في حلف شمال الأطلسي. وبين شهرَيْ فبراير/شباط ومايو، تقترب القراءات الغربية أكثر فأكثر من مدى جدّية وواقعية التلويح الروسي بوضع المعدات النووية في حالة تأهب من قبل الكرملين.
في افتتاحية بعنوان "قد يكسر بوتين حقّاً التابو النووي" نشرتها "وول ستريت جورنال" قبل أيام، تقول بيجي نونان: "لسنا قلقين بما يكفي بشأن الاستخدام النووي الروسي جزئياً، لأننا نتخيل شيئاً مثل صواريخ ضخمة برؤوس حربية ضخمة تُطلَق من قارة أخرى وتتسارع عبر الفضاء. نعتقد أن هذا لن يحدث، ولم يحدث قط! لكن الاستخدام الأكثر احتمالاً هو أنه لن يتمّ استخدام الأسلحة النووية الاستراتيجية الكبيرة ولكن الأسلحة التكتيكية الأصغر في ساحة المعركة".
هكذا تزداد أهمية الإجراءات الروسية في مولدوفا التي تحاذي حدوداً بأوكرانيا، وأضحت في وضع حرج بما يحدث في إقليم ترانسنيستريا الذي يمثّل برميل بارود محتمَلاً في منطقة الشرق حيث يسيطر الانفصاليون الموالون للكرملين بمساعدة نحو 1500 جندي روسي.
ظلّت المنطقة المتنازع عليها دون تغيير تقريباً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي واستمرّ تبنّيها شعار "المطرقة والمنجل"، وإنْ اتّبَع الكرملين تحت قيادة بوتين سياسة ليبرالية أفضت إلى تعزيز نفوذ الأوليغارشيين وانتعاش القومية الروسية.
وتقول موسكو إن قواتها ما زالت تحافظ على السلام في الشريط الضيق على طول نهر دنيستر، لكن المسؤولين في العاصمة كيشيناو يتهمونها باحتلال المنطقة بشكل غير قانوني. ويطالب المجتمع الدولي بمغادرة القوات الروسية أراضي مولدوفا. لكن، لم يتزحزح أحد من الطرفين عن موقفه حتى الآن.
يقول إيغور مونتينو سفير مولدوفا في الولايات المتحدة سابقاً ورئيس معهد التنمية والمبادرات الاجتماعية في كيشيناو، إنّ "ما بدأ بمثابة مصدر قلق يتحوّل بسرعة إلى حالة ذعر". ويضيف أنه يقرأ في تصريحات الروس أن "مولدوفا مستهدَفة، وقد تكون هناك خطط للغزو من ترانسنيستريا. وتتسع حالة الانقسام بين المجتمع المولدوفي بشأن ما ينبغي فعله بعد تنبيه أوكرانيا لنا بأننا المستهدفون في المرحلة المقبلة، فيما يُصِرّ قادتنا على أنه من الأفضل استرضاء موسكو بالبقاء خارج دائرة الحرب."
وقد قاومت حكومة مولدوفا الدعوات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلفاء الغربيين لفرض عقوبات على روسيا وشحن أسلحة إلى أوكرانيا، وتتمسك بالتزامها الدستوري بالحياد. وأظهر استطلاع للرأي أجراه مركز أبحاث CBS-AXA في أبريل/نيسان الماضي أن 46 بالمئة من سكان مولدوفا يعتبرون الغزو الروسي "هجوماً غير مبرَّر"، فيما يؤيّد 18 بالمئة منهم حجة الكرملين بأنه "تحرير البلاد من النازية". ويحمل أكثر من مليون مولدوفي، من أصل مجموع السكان البالغ عددهم 2.6 مليون نسمة، جوازات سفر الاتحاد الأوروبي.
بوتين ولعبة الشطرنج المتحرّك
أعلن الكرملين في 17 من ديسمبر/كانون الأول 2021 قائمة مطالب أسماها "الضمانات الأمنية"، ووجّه بوتين اتهامات إلى الغرب بأنه قد "وسَّع بقوَّة" نفوذ الحلف رغم ما يعتبره تأكيدات تعود إلى عام 1990 بأنه لن يفعل ذلك. ونشر أكثر من 100 كتيبة تكتيكية وقوة عسكرية بنحو 190 ألف جندي بمثابة تمرين مثير يجمع بين شفافية الاستعراض وخداع المناورة على حدود أوكرانيا في يناير/كانون الثاني الماضي.
وفي الثامن والعشرين من فبراير الماضي، تم تسريب وثيقة تشمل خطة بوتين نشرتها وكالة "ريا نوفوستي" بطريق الصدفة، وتقضي بأن يسيطر الجنود الروس على كييف في غضون يومين فقط، ثم يعلن الكرملين بدء نظام عالمي جديد في 26 فبراير الماضي. وكان من المفترض أن يؤدّي الاستيلاء السّريع على أوكرانيا إلى وضع الغرب أمام الأمر الواقع، مثل ما حدث في بيلاروسيا وكازاخستان وجزيرة القرم، وبالتالي فرض سياسة خارجية روسية جديدة أكثر قوة مما سبق. ويكون بوتين بذلك قد أنهى الهيمنة الغربية العالمية وألغى شروطها.
عمد بوتين إلى إدراج توليفة ذكية بنَفَسٍ ميكيافيلي من أجل تبرير استخدام القوة وتكريس السياسة وتحدّي الغرب، وحاول أن يجمع المجد من طرفَيْه بتغليف نزعته لاستخدام القوة وبقية منطلقات الواقعية السياسية بوشاء ناعم من قيم مناهضة الكذب السياسي والعدل وبقية المبنيات السياسية political constructs في مدرسة الفكر المثالي، فقال: "توجد حاجة دائماً إلى القوة، ولكن يمكن أن تكون القوة ذات جودة مختلفة. إن سياسة (إمبراطورية الأكاذيب) تقوم أساساً على القوّة الغاشمة والمباشرة، وفي مثل هذه الحالات نقول: (توجد قوة؛ لا حاجة إلى العقل). أنا وأنتم نعلم أن القوة الحقيقية تكمن في العدل والحقيقة اللذين هما إلى جانبنا. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الصعب الاختلاف مع حقيقة أن القوة والاستعداد للقتال هما الأساس الذي يقوم عليه الاستقلال والسيادة، وهما الأساس الضروري الذي يمكنك من خلاله بناء مستقبلك بشكل موثوق، وبناء منزلك وعائلتك ووطنك." وختم خطابه بعبارة تنطوي على توظيف القومية والهوية الجماعية قائلاً: "أنا أومن بدعمكم، بهذه القوة التي لا تُقهَر التي يمنحنا إياها حبُّنَا للوطن".
في دراسة بعنوان "حربُ أوكرانيا: براعةُ بوتين في التّضليل والإنكار والهزيمة"، يقول الدكتور روبرت جونسون مدير برنامج تغيُّر طابع الحرب في جامعة أكسفورد: "لقد أصبحَت روسيا هي المعتدِي المكروه في حرب يبدو أنها لا تستطيع الفوز بها، بدلاً من كونها لاعباً ذكياً في الاستراتيجية الدولية والدبلوماسية. ومن الواضح أن بوتين لا يكترث بأي اعتبار إزاء الرأي العامّ الروسي أو بالخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، لكن استراتيجيته الأصلية فشلت، والواضح أنّه حدّد بضع غايات معينة، ومنها: أولاً إيجاد نظام عالمي جديد تكون فيه روسيا قوة مهيمنة ومنافسة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ثانياً فرض السيطرة على كييف في غضون يومين، ثالثاً فرض الأمر الواقع أمام الحلف وأن يقبل بوجود "روسيا أكبر"، رابعاً استسلام الأوكرانيين وأنهم لن يحصلوا على دعم خارجي، خامساً أن روسيا تعود إلى حجمها وقوتها اللذين كانا خلال الحرب الباردة تقريباً، سادساً أن الصين ستوفّر الدعم ضمن المحور الآسيوي الجديد.
مآلات ما بعد حرب أوكرانيا
بعد أسبوع من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، قلتُ في أكثر من مقابلة إن أرض أوكرانيا مجرّد وعاء مرحلي للمجابهة المفتوحة بين الكرملين والغرب، وأن من الممكن أن يتم نشر وجود عسكري روسي على الحدود الأوكرانية البولندية على غرار الحشد العسكري الذي ظل لأشهر على الحدود الروسية الأوكرانية. وتجسد أحداث مولدوفا فرضية استراتيجية قد يطبقها الكرملين في أي منطقة أخرى توجد فيها أقلية روسية أو موالون لموسكو ولو في أرض المرّيخ.
وتنطوي الزيارات المتكررة للمسؤولين الأمريكيين (بلينكن، وهاريس، وبايدن وزوجته جين وخبراء البنتاغون) على مدى التهديد القائم لدولة سوفياتية التاريخ أوروبية الحاضر وغربية المستقبل. وهذا يعزز استشرافا آخر أنه طالما لم يستجب الغرب لمطالب بوتين، فإنه سيواصل سياسة التدخل المتدرج باسم الدفاع عن الأقليات الموالية لموسكو بداية بأوكرانيا ومولدوفا، ولاحقا بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث وبقية الجمهوريات السوفييتية السابقة.
هي حرب مفتوحة من عدة معارك مباشرة وغيلا مباشرة. ومما سيزيد في أمدها لسنوات وليس مجرد أشهر ثلاثة أسباب رئيسية هي أولا: عدم تقاطع السلاح العسكري الروسي مع سلاح الاقتصاد السياسي والعقوابات التي تفرضها الدول الغربية، أي أن سلاح المقاتلة والمدفعية لا يتقابل مع سلاح الاقتصاد السياسي وفي مقدمته العقوبات التجارية وفرض العزلة المالية على المصارف الروسية وحرمانها من استخدام نظام سويفت للتحويلات المالية، وتضييق الخناق ماليا على عدد من الأثرياء والمقربين من بوتين. ثانيا حرب اوكرانيا وما سيعقبها لن تؤدي إلى معادلة صفرية عادية أو رابح مقابل خاسر في الحرب الأوكرانية، بل تكرّس معادلة صفرية مطلقة في سلبيتها لأنها تتجه نحو الاستنزاف المتبادل. ثالثا، استمرار القناعة التاريخية والسياسية لدى بوتين وغيره في الكرملين بأن لروسيا الحق في الوصاية على جميع الدول التي خرجت من عباءة الحقبة السوفييتية، وهذا هو أساس النزعة نحو "مراجعة" أو "تصحيح" التاريخ لدى الرئيس بوتين الذي حاضر عنها الرئيسَ الفرنسيَ ماكرون طيلة خمسة ساعات في الكرملين.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.