أرسلت موسكو قُبيل الحرب وعلى إثر تصاعد التوتر مع أوكرانيا جحافل من القوات الروسية المدرعة والميكانيكية والمجوقلة، ووحدات من مختلف الصنوف ضمّت بين صفوفها الألوية والفرق الضاربة، وقوات من المظليين والنخبة إلى بيلاروس، وذلك من أجل المشاركة في مناورات عسكرية دفاعية مشتركة بين الجيشين الروسي والبيلاروسي استمرت 10 أيام.
وقد أخفت القيادة الروسية طبيعة الأهداف الحقيقية لهذه المناورات، وأعلنت أنها مجرد تدريبات على رفع الجاهزية القتالية، والاستعداد لوقف أي هجوم خارجي معادٍ وصدّه. وزعم وزير الخارجية البيلاروسي فلاديمير ماكي أن الجنود الروس سيغادرون بلاده فوراً بعد انتهاء التدريبات والمناورات، ولكن هذا الأمر لم يحدث، بل أصبحت الأراضي البيلاروسية بمثابة نقطة تجمّع، وقاعدة انطلاق للغزو الروسي للأراضي الأوكرانية من عدة جبهات ومحاور بما فيها البحر الأسود وبحر آزوف.
في الفترات الأخيرة، ومع اشتداد الحرب واستعادة الجيش الأوكراني زمام المبادرة، تكبد الجيش الروسي خسائر فادحة وغير متوقعة في الأرواح والمعدّات، وخسارته مساحات واسعة من الأراضي وعشرات المناطق التي كان قد سيطر عليها في بدايات غزوه، وخاصة تلك المساحات الواقعة في محيط خاركيف، وإقليم الدونباس شرقاً، ومحيط خيرسون زاباروجيا جنوباً. كل هذه الانتكاسات عملياً أجبرت الرئيس بوتين على إعادة حساباته وتقديراته للمواقف، وإصداره أوامر فورية باستدعاء 300 ألف من جنود الاحتياط للزج بهم في الحرب، سعياً منه لتحقيق بعض من أهداف عمليته الخاصة، والتي وكما تشير كل الوقائع أنها ستصبح حرباً طويلة لا هوادة فيها.
من خلال المتابعة لتطورات ومفترقات المعارك الجارية وتقلّباتها، فلا شك أن هذه الحرب وأقلّها من خلال المساعدات العسكرية الغربية والأمريكية الحديثة الضخمة، وخطوط الإمداد الغربية والأمريكية المفتوحة التي يُزوّد من خلالها الجيش الأوكراني بسخاء غير مسبوق، بأحدث أنواع الأسلحة والأعتدة والترسانات العسكرية، فالواقع الميداني بات يؤكد أن المواجهات المحتدمة لم تعد عملية خاصة أو حرباً بين دولتين، بل أصبحت حرباً بالوكالة بين روسيا والغرب.
بل ومع قادم الأيام وتطورات المواقف السريعة والناشئة، فإن واشنطن والغرب متخوفان من أن تَجُرَّ موسكو جارتها بيلاروس بعدّتها وعتادها إلى أتون هذه الحرب. وخاصة وكما بات معروفاً أن هناك علاقة تحالف قديمة قوية تربط الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقد دعم الكرملين الرئيس “لوكاشينكو“ الذي يقود البلاد منذ عام 1994 في فترة تشكيك المعارضة البيلاروسية بنتائج الانتخابات التي شهدتها البلاد عام 2020، ونزلت إلى الشوارع احتجاجاً عليها ورفضاً لها.
واقعياً وبعد كل هذه الخسائر، والاستنزاف الكبير الذي يتعرّض له الجيش الروسي، فمن المحتمل أن يُقنع نظيره لوكاشينكو لإعداد الظروف والأجواء المناسبة لتبرير تدخل "مينسك" وفتح جبهاتها الطويلة مع أوكرانيا دعماً للقوات الروسية، وهذا بالفعل ما صرّح به الرئيس لوكاشينكو منذ عدة أيام عندما قال: "حُذّرنا عبر قنوات غير رسمية أن هناك إعداداً لهجوم أوكراني على بلادنا، ونحن بدورنا سنشكّل قوة عسكرية إقليمية مشتركة مع روسيا، وإنّ فتح أوكرانيا أي جبهة علينا هو عمل جنوني من الناحية العسكرية".
في الواقع فإنّ القلق والمخاوف الغربية تتزايد من احتمال دخول "مينسك" على خطوط المعارك والمواجهات، لتقديم العون للقوات الروسية، وخاصة أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بات يعاني وبحاجة ماسة إلى الدعم الخارجي، وعليه، وفي حال حدوث التدخل المباشر من قوات روسيا البيضاء، فإن هذا الأمر من الناحية التكتيكية والعملياتية لن يكون سهل الوقع والوقائع على القوات الأوكرانية، وربما ستتغير المعادلة جذرياً لصالح القوات الروسية وذلك للأسباب التالية :
أولاً: الحدود البيلاروسية المشتركة مع أوكرانيا يبلغ طولها ما يقارب 890 كم، وهذا من الناحية العسكرية يتطلب من الجيش الأوكراني قوات كبيرة لتغطيتها، وربما من جبهات قتال نشطة أخرى. وهذا ما سيُحدِث خللاً وفجوات وضعفاً في الأنساق القتالية الأوكرانية.
ثانياً: إن تغطية الجيش الأوكراني للجبهات مع بيلاروس، سيُحدِث خللاً كبيراً على الجبهات الشرقية في خاركيف ومحيطها، والجنوبية في محيط ميكولايف و أوديسا وغيرها، وبالتالي سيُعطي هذا الأمر فرصة كبيرة للقوات الروسية لإمكانية إحداث اختراقات كبيرة بهدف السيطرة عليهما، والتقدم لاحقاً من محاور عدة باتجاه مدن الوسط على طول الضفة الشرقية والغربية لنهر دينيبرو.
ثالثاً: إنّ فتح الجبهات البيلاروسية سيُعيق ويضيّق حتماً على طرق الإمداد الرئيسية المفتوحة للجيش الأوكراني والقادمة من دول الجناح الشرقي لحلف الناتو.
رابعاً: إن تدخل بيلاروس المباشر سيشكل تهديداً أكبر على العاصمة كييف وخاركيف والمدن الأخرى التي تقع غربي نهر دينيبرو وعلى طول الحدود الشمالية والغربية للبلاد.
رغم أن تدخل بيلاروس وانغماس جيشها بشكل مباشر في الحرب لا يزال مستبعداً وأقلّها حتى هذا الوقت، وذلك بسبب الرفض الشعبي لهذا الأمر، وأيضاً تحذيرات واشنطن والدول الغربية للرئيس لوكاشينكو من التهور والإقدام على ذلك، وتخوف مينسك من تزايد الحصار والعقوبات المفروضة عليها، وزيادة عزلتها الإقليمية والدولية بسبب تأييد قياداتها للغزو الروسي، ولكن ومع قادم الأيام وزيادة التصعيدات الميدانية والسياسية وتبدلات التقديرات للمواقف، وإصرار واشنطن والناتو على تغذية الحرب من خلال دعم صمود كييف وقواتها المسلّحة بالمتطلبات كافة، والذي يقابله في الطرف الآخر إصرار من بوتين بالمضيّ قُدماً في حربه، فكل شيء ممكن أن يتغيّر ويتبدّل ويمكن أن نشهد تطورات أخرى للحرب واتساعها عملاتياً وجغرافياً.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.