في المقابل کان صمت المسؤولين العراقيين وقادة الأحزاب والكتل السياسية إزاء هذه التصريحات لافتاً للانتباه.
وكان محمود جهارباغي، القائد الأسبق لوحدة المدفعية في القوات البرية للحرس الثوري وقائد وحدة المدفعية في فيلق القدس في سوريا، صرّح بمناسبة إحياء ذكرى الحرب العراقية-الإيرانية أو ما تطلق عليه إيران "أسبوع الدفاع المقدس"، حرفياً بأن "العراق أصبح كمحافظة من محافظاتنا. يمكن أن يُلحظ ذلك حين يذهب مواطنونا للزيارة في ذكرى الأربعين. الرموز والمظاهر التي تشير إلى إيران موجودة في العراق أكثر من إيران نفسها. لقد أثاب الله شبابنا الذين قاتلوا ضدّ العراق وعاقب العراق وجعله محافظة من المحافظات الإيرانية. هذا من بَرَكة دماء الشهداء".
إن عدم صدور مواقف من الحكومة والقوى السياسية العراقية ضد هذه التصريحات جعل السلطات الإيرانية تتجاهلها كأنها لم تكن. صحيح أن البيانات ليس لها قيمة من الناحية العملية وأنها لن تتجاوز -إن صدرت- تبرير التصريحات واعتبارها مغايرة لسياسات إيران في العراق، وأنها لن تغيّر واقع الحال الذي عبّر عنه المسؤول الإيراني، لكنها أقلّ المتوقَّع.
العراق بأعيُن إيرانية
تمتلك الجمهورية الإسلامية نظرة استعلائية متغطرسة تجاه دول المنطقة وشعوبها، ورغم أنها تحاول إخفاء هذه الحقيقة، فإن تصريحات مسؤوليها بين حين وآخر تكشف عنها.
في الحالة العراقية، تنظر الجمهورية الإسلامية إلى العراق على أنه جزء من إمبراطوريتها التليدة، وهو ما عبّر عنه علانية علي يونسي مساعد الرئيس "المعتدل" حسن روحاني ووزير الاستخبارات في حكومة الرئيس "الإصلاحي" محمد خاتمي قبل سنوات. سبقه بذلك يحيى رحيم صفوي مستشار المرشد حين أكّد أن حدود إيران "لا تقف عند شلمجة على الحدود العراقية، بل تصل إلى جنوب لبنان".
تعتقد أن من حقّها الوصاية على شيعته العرب وتوظيفهم في خدمة مشروعها التوسعي، لذلك يسوؤها بناء علاقات حسنة بين القيادات الشيعية العراقية والدول العربية ودول جوار العراق. وتزعم أنها هي المستهدَف الحقيقي من الغزو الأمريكي للعراق، ومن تشكيل داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة، كما صرح قاسم سليماني.
وباعتبارها المستهدَف الحقيقي و"أم القرى للعالم الإسلامي"، أي مركزه، تؤمن بضرورة إبعاد الخطر عن المركز، لذلك تعمل على نقل معاركها إلى خارج أراضيها كي تكون بمثابة مصدات ودروع تحميها من مواجهة أعدائها داخل أراضيها. ولا ترى ضيراً في سبيل الحفاظ على المركز (إيران) من تدمير الدروع والمصدات (دول الأطراف) وقتل شعوبها وتشريدهم وإن كانوا من الشيعة، فالهدف الأسمى هو الحفاظ على نظامها الإسلامي.
وهذا ما اعترف به اللواء محمد باقري رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الذي قال في أبريل 2017 إن الحرس الثوري بمواكبة المقاومة الإسلامية [الميليشيات] في سوريا والعراق قد تَحوَّل إلى درع للدفاع عن الشعب [النظام] الإيراني.
ترى في العراق القويّ مصدر تهديد لها، ولا يمكنها أن تنسى -ما بقيت- حربها ضده، ولذلك تسعى للهيمنة عليه وإضعافه والحيلولة دون بناء دولة قوية قد تكون خصماً أو منافساً لها في المستقبل. وفي سبيل ذلك عملت منذ الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي على التغلغل في مختلف مفاصل الدولة، وأسست تدريجياً طبقة سياسية موالية لها عقيدةً أو مصلحةً أو خوفاً، تضمن مصالحها من خلالها بشكل قانوني.
وتمكنت بفضل هذه الطبقة السياسية من شرعنة الميليشيات الموالية لها وأدخلتها في هيكلية الدولة وأمدّتها بكل أنواع الدعم كي تبتلع الدولة كما هو الحال في حرسها الثوري. ووظفت هذه الميليشيات وغيرها في تصفية حساباتها مع الولايات المتحدة، بل استخدمتها كأداة لتهديد دول الجوار واستهدافها عبر الأراضي العراقية في بعض الأحيان. وعملت على طمس هوية بعض المناطق، وما زالت تمارس التغيير الديموغرافي في مناطق أخرى عبر هذه الميليشيات، كما سخّرَت موارد الدولة العراقية في تمويل الميليشيات الموالية لها في المنطقة.
ووضعت -وما زالت- العراقيل في وجه بناء علاقات قوية بين العراق ومحيطه العربي ودول الجوار، ومارست -ولا تزال- دوراً تخريبياً في منع العراق من إنشاء بنية تحتية قوية ومشاريع حيوية في مجال الطاقة والمواصلات والموانئ وغيرها، كي يظلّ بحاجة إليها، وهو ما اعترف به بهاء الأعرجي، نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي.
تكميم الأفواه
تسبب نظام المحاصصة الطائفية الذي وضعته أمريكا بعد عام 2003، وكذلك السياسة التي انتهجتها إيران في هذا البلد، في انتشار الفساد والمحسوبية والرشوة وتغليب الولاءات المذهبية والقبلية على الكفاءات، وفي سوء الخدمات وانعدامها أحياناً رغم الثروات الهائلة التي يتمتع بها العراق.
وفشل المسؤولون العراقيون المدعومون من إيران رغم مضي أكثر من 15 عاماً من تسلمهم الحكم، في تقديم نموذج مقبول في الإدارة والسياسة. لكن رغم ما تقدّم، تتوقع إيران من شيعة العراق تأييد سياساتها أو الصمت عنها، وتعتبر الأصوات الشيعية المطالبة بالحدّ من تدخلاتها أشدَّ خطراً من غيرها، لذلك تعمل على إسكاتها.
خلال السنوات الفائتة، تَعرَّضت عشرات الصحف والمجلات وقنوات التلفزة للهجوم والإغلاق والتهديد باغتيال المسؤولين عنها، واضطُرّ كثير منهم إلى مغادرة البلاد نهائياً خوفاً على حياتهم بعد توجيه انتقادات إلى المرشد الإيراني والحرس الثوري، أو بسبب ما اعتُبر تصرفاتٍ تسيء إلى مشاعر (العراقيين).
وحين انتفض الشباب العراقي سلمياً في مدن الجنوب التي تقطنها غالبية شيعية في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد الفساد وطالب باستعادة الدولة المختطَفة والحد من النفوذ الإيراني، وصف المرشد الإيراني علي خامنئي المظاهرات بأعمال الشغب التي تقف وراءها أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية وتحظى بدعم مالي من "الدول الرجعية في المنطقة" وينبغي التصدي لها، وهو ما اعتُبر حينها دعوة صريحة إلى استخدام العنف في قمع المتظاهرين، وهذا ما حدث بالفعل. ومنذ ذلك الحين بدأ مسلسل اغتيال الناشطين، وطال العشرات منهم، وما يزال مستمرا حتى الآن. ورغم أن الجناة معروفون، لم تصل التحقيقات التي فُتحت إثر عمليات الاغتيال إلى نتيجة ويبدو أنها لن تصل في ظل الظروف الراهنة.
هل من طريق لاستعادة الدولة؟
لن يحول دون استباحة العراق وإطلاق هذا النوع من التصريحات الفجة سوى بناء عراق قويّ موحَّد، ولن تتمكّن الحكومات العراقية مهما كانت قوية من استعادة هيبة الدولة وبسط السيادة والتخلص من الفوضى القائمة والقضاء على الميليشيات الخارجة عن القانون وحصر السلاح بيد الدولة، ما لم تحظَ بدعم جادّ من المجتمع الدولي.
وهذا لن يتحقق إلا من خلال الضغط على إيران للحدّ من تدخلاتها وحل الميليشيات وإجبارها على تسليم سلاحها للدولة -وبالطبع لن ترضخ إيران بسهولة لهذه الضغوط- أو تشكيل تحالف دولي لمحاربة الميليشيات كالتحالف الذي شُكّل ضدّ داعش.
لكن لا توجد أي مؤشرات إلى رغبة حقيقية من قبل المجتمع الدولي بإنهاء المأساة العراقية، وعليه يبدو أن الطريق الوحيد المتاح أمام الشباب العراقي هو الاستمرار في ثورته التي بدأها في نهاية العام 2019 لاستعادة الدولة وهُويتها العربية الأصيلة. صحيح أن هذا الطريق سيكون مكلّفاً، لكن لا بد من دفع الثمن.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.