في يوم السبت، السابع من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣، حدث زلزال في الشرق الأوسط. لم يكن هذا زلزالاً أحدثته قوى الطبيعة التي لا سيطرة لقوى البشر عليها، بل كان من صنع البشر، دمّر استراتيجيات محلية وضرب تصوّرات إقليمية وزعزع رؤىً دولية. هجوم حركة حماس على ما يُعرف بمستوطنات غلاف غزة فاجأ إسرائيل كما فاجأ دول الشرق الأوسط والدول العظمى.
وفشلت الاستخبارات الإسرائيلية والقيادة السياسية والعسكرية في استقراء هذا الهجوم، مما جعلها مشدوهة أمام ما يحدث وأربكها لمدة ليست قصيرة.
وخلال هذا الارتباك قُتل أكثر من ١٢٠٠ إسرائيلي، وأُسر العشرات، من دون أن تستطيع القوّات العسكرية الإسرائيلية فعل شيء لصدّ هذا الهجوم، كما لم تستوعب القيادة السياسية حجم الحدث إلّا بعد مرور ذلك النهار، ولم يصدر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بيان إلّا بعد انتهاء الحدث.
في اليوم التالي لهجوم مقاتلي الفصائل الفلسطينية، قصفت الطائرات الإسرائيلية قطاع غزة قصفاً عشوائياً، خصوصاً مناطق شمال القطاع ومدينة غزة، إذ لم يكن لدى القيادة الإسرائيلية هدف واضح لردة فعلها إلّا التدمير والقتل العشوائي.
واستغرقت القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، نحو أسبوع لتتحدث عن أهداف لردة فعلها العسكرية، ولخصتها بأقوال عمومية وغير واضحة، وهي "الانتصار وإبادة حماس"، وخلال الأسبوع الثاني وبضغط من أهالي الأسرى الإسرائيليين جرت إضافة هدف آخر، وهو "تحرير المخطوفين".
وخلال الأسبوع الأول للحرب سُمعت في استوديوهات القنوات التليفزيونية الإسرائيلية ومن خلال بعض المحللين والمراقبين مواقف انتقادية ضدّ نتنياهو وحكومته.
لكن هذه الانتقادات التحليلية اختفت منذ الهجوم البرّي للقوات الإسرائيلية على قطاع غزة، وتجندت القنوات التليفزيونية الإسرائيلية والصحافة لمساندة الجيش الإسرائيلي وفرض الرقيب العسكري رقابة صارمة على أخبار الحرب.
الانقلاب القضائي.. مقدمة الفشل
انصبّ غضب المراقبين على نتنياهو الذي انشغل خلال رئاسته للحكومة بأمور داخلية تتعلق بمحاكماته الشخصية، وخلافاته الكبيرة مع المعارضة التي عارضت ما سمّته بـ"الانقلاب القضائي".
وادّعت المعارضة أنّ رئيس الحكومة عليه الاستقالة من منصبه حين وافق المستشار القضائي للحكومة على تقديم لوائح اتهام ضدّه في قضايا تتعلق بتهم الفساد وخيانة الأمانة والرشوة، وبدأت محاكمة نتنياهو في مايو/أيار ٢٠٢٠ في المحكمة المركزية في القدس.
ومنذ تقديم لوائح اتهام ضدّ نتنياهو عام ٢٠١٩ وحتى إقامة الحكومة الحالية في ١ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٢٢ شهدت إسرائيل عدم استقرار سياسي، أدّى إلى إجراء خمسة انتخابات برلمانية وتغيير خمس حكومات.
وكان الجدال السياسي والقانوني بأهلية نتنياهو المتهم والماثل أمام المحكمة العامل الأساسي لعدم الاستقرار السياسي في إسرائيل، ونتيجةً لذلك انشغلت غالبية أجهزة الدولة الإسرائيلية بهذا الجدل، مما أثّر سلباً فيها كما اتضح لاحقاً.
ورغم عدم الاستقرار السياسي والجدل المجتمعي المتواصل، فإن نتنياهو نجح في العودة إلى رئاسة الحكومة بعد أن خسرها في الجولة الانتخابية السابقة، ولم يتورع نتنياهو عن إقامة ائتلاف حكومي يستند على الكتلتين الأكثر تطرفاً وفاشية في إسرائيل برئاسة بن غفير وسموطريتش.
وهكذا ربط نتنياهو مصير حكومته وائتلافه الحكومي بهاتين الكتلتين. والواضح لكل المراقبين أن نتنياهو فعل ذلك ليضمن دعم أعضاء حكومته لتغيير المبنى القضائي في إسرائيل.
وسعى نتنياهو من خلال وزير القضاء ياريف ليفين وتفويض كامل من الحكومة لدعم مشروع إضعاف المحكمة العليا لمنعها من التدخل في القوانين التي يسنّها البرلمان، بدعوى أن المحكمة لم تُنتخب من قِبل الجمهور، بعكس البرلمان (الكنيست) الذي يمثّل سلطة الشعب.
كما سعى نتنياهو إلى تقليص صلاحيات مكتب المستشار القضائي للحكومة لمنعه من التدخل في قرارات الحكومة، وإضعاف مكانة المستشار القضائي القانونية. وقد أطلقت المعارضة على مشروع التغيير هذا "الانقلاب على السلطة القضائية" ليتيح لنتنياهو تشريع مجموعة قوانين توقف محاكمته وتمنع مثوله أمام القضاء.
نجحت المعارضة في تنظيم مظاهرات شعبية شارك فيها مئات الآلاف من المعارضين لمشروع "الانقلاب على السلطة القضائية" وضد نتنياهو شخصياً، وطالبوا باستقالته، فهو لا يستطيع إدارة الدولة ما دامت المحكمة تتهمه بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة.
ومن ناحية أخرى نظمت أحزاب الائتلاف الحكومي مظاهرات مضادة تأييداً لنتنياهو، وفي مرّات عدّة حدثت اصطدامات بين متظاهري الفريقين، وبدا واضحاً انقسام الشارع بين هذا وذاك، واستمرت المظاهرات الصاخبة لأشهر عديدة منذ إقامة حكومة نتنياهو وحتى عشية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
نتنياهو عنوان للفشل
لقد انشغل نتنياهو والحكومة الإسرائيلية والأحزاب الإسرائيلية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، الجيش والاستخبارات، على مدى عام بالانقسام السياسي، ولم يكن باستطاعتهم التنبّه إلى ما يجري من حولهم أمنياً وعسكرياً.
وإضافةً إلى انشغال إسرائيل وبكل مؤسساتها بهذا الانقسام، اتخذ الرئيس الأمريكي بايدن موقفاً واضحاً ضدّ نتنياهو، وعلى مدار العام منذ اندلاع المظاهرات ضد "الانقلاب على السلطة القضائية" الذي وصفه بايدن بأنّه انقلاب على النظام الديمقراطي، وعاقب نتنياهو وحكومته بعدم دعوته إلى البيت الأبيض كما جرت العادة حين انتخاب رئيس للحكومة الإسرائيلية.
وأدّى هذا إلى اندلاع صراع مفتوح مع الرئيس بايدن، مما جعل كثيرين يشعرون بأن هذا الخلاف قد يؤدي إلى الإضرار بالمصالح الحيوية الإسرائيلية.
وحين أفاق المجتمع والمؤسسات الإسرائيلية من هول المفاجأة التي جرت يوم ٧ أكتوبر/تشرين الأول، وتبيّن للجميع هول المعركة وعِظَم الفشل الإسرائيلي، أشار عديد من المراقبين والمحللين الإسرائيليين إلى أن كل هذا الفشل والهزيمة النكراء ما كان ليحدث لولا انشغال نتنياهو وحكومته والأجهزة الأمنية بقضايا الانقسام الداخلي، الذي سببه نتنياهو بتنفيذه انقلاباً قضائياً لينقذ نفسه من المثول أمام المحكمة وعدم الزج به في السجن، كما حصل لغيره من زعماء سياسيين واجهوا تهماً مشابهة.
واشنطن ونتنياهو.. سؤال ما بعد الحرب
ولهول الهزيمة التي واجهتها إسرائيل، أزاح بايدن خلافاته مع نتنياهو جانباً، وزار إسرائيل يوم ١٨ أكتوبر/تشرين الأول، وكانت هذه الزيارة الأولى لرئيس أمريكي لإسرائيل في أثناء الحرب.
والأهم من ذلك أن الرئيس الأمريكي ڜارك في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، معلناً بذلك أنه شريك في هذه الحرب، وحرّك جسراً جوياً من المساعدات العسكرية والمالية لإسرائيل ليمنع انهيارها أمام هجوم المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة.
كما زار إسرائيل عديد من رؤساء أوروبا بإيعاز من بايدن، لدعمها ومساعدتها لتقف أمام حماس وقطاع غزة.
وبعد مرور أكثر من شهرين من الحرب على غزة، ما زال الجسر الجوي الأمريكي يعمل بكل طاقته. وتساعد الاستخبارات الأوروبية، وخصوصاً البريطانية، القوّات الإسرائيلية في مسعاها للنَّيل من حماس والكشف عن أماكن وجود الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة.
وما زال عالقاً في الأفق السؤال الأكبر: ماذا سيكون بعد هذه الحرب؟
الإدارة الأمريكية تضغط باتجاه إنشاء إدارةٍ ما في قطاع غزة تؤسس لإحياء مشروع حل الدولتين، وهذا ما لا يمكن لنتنياهو الحديث عنه في هذه المرحلة، إذ إن مجرد الحديث عن هذا الأمر قد يطيح بحكومته المستندة على أحزاب اليمين المتطرف، الذين يهددون بالانسحاب من الحكومة وإسقاطها لو جرى بحث موضوع الدولة الفلسطينية.
وهكذا يجد نتنياهو نفسه في دائرة الخطر والفشل السياسي أياً كانت نتيجة هذه الحرب.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.