في بلدان داخلية فقيرة على ضفاف الصحراء الكبرى في إفريقيا، وفي شرق إفريقيا، وفي غربها ووسطها تنهض روسيا مجدداً على خطى الإرث السوفييتي القديم برؤى جديدة وأفق مختلف، وتقترب روسيا من هذه القارة الواعدة المنهكة، وتمدّ لها يداً مع أيادٍ أخرى ممدودة، ووجدت هناك من يمسك هذه اليد في خضمّ الصراعات التي لا تنتهِ.
لم تدخل روسيا منطقة خالية من النفوذ، فلا تزال فرنسا تفرض نفوذها القويّ بالترهيب والترغيب، عبر أجيال ممن تلقّوا الثقافة الفرنسية والأنظمة التي تأسست عقائدها الإدارية والثقافية والعسكرية على النمط الفرنسي.
ولكن هذا النفوذ لم يساعد الأفارقة على حلّ مشكلاتهم العميقة المستعصية، ولم يحوّل بلدانهم إلى الديمقراطية، ولم يوقف دوامات الصراع المتصلة، بل كان هذا النفوذ يدير هذه النزاعات، ويضبط موجاتها، وينحاز دائماً إلى المصالح الفرنسية ومن يمثّل هذه المصالح هناك.
وبات واضحاً أن هناك وعياً إفريقياً يتحوّل إلى مستويات عملية تبحث عن الخلاص من هذا النفوذ بتبني مشروعات ثقافية بديلة، وتحالفات اقتصادية أوسع، وعلاقات سياسية منفتحة، وخيارات استراتيجية انقلابية.
وما زال النفوذ القوي لفرنسا يقف بعنف أمام أي محاولة لتجاوز حضوره المتمكّن، وكانت المؤسسات العسكرية التي تصنعها فرنسا الدرع الواقي لهذا النفوذ، وأداة الهجوم أيضاً، لكن هذه المؤسسات تعرضت لاختراق كبير من جانب النفوذ الأمريكي والنفوذ الروسي والصينيّ عبر برامج التدريب المستمرة، التي استمالت نفراً من الضباط الكبار، ونمّت فيهم المشاعر الاستقلالية، وأفكار المصالح الوطنية، وفتحت أعينهم على بدائل متاحة لا تقل فائدة عما تقوم به فرنسا بنمطٍ مملّ، بل فيها امتيازات لا تضعها فرنسا في الاعتبار أو الاهتمام، بل إن فرنسا باتت متورطة في بحر الفساد المتلاطم، تشارك فيه وتغطّيه وتصنعه وتبرره، كما أنها أيضاً تحاربه وتبتزّه وتحاصره في مشهد متناقض غريب.
فكلّ ما تقدّمه فرنسا لإفريقيا بات اليوم ملوثاً بالفساد والنمطية والاحتيال ومراكز القوى والسوق السوداء ومخالفة القانون والانتقائية التمييزية والعداوة لبعض المكونات السكّانية والثقافات والانحياز لأخرى.
هذه الدول الإفريقية التي ظل أكثرها مهدداً بالعقوبات الدولية من غير المظلة الفرنسية كانت بحاجة إلى طرف قويّ ينافس فرنسا ويسعى إلى الحلول مكانها حتى إن لم يصل إلى مكانتها، وهناك رغبة شعبية إفريقية عارمة في الخلاص منها، وكانت روسيا هي الخيار الوحيد القويّ المتاح، بل إنها في نشاطها المباشر وكأنها تنظر إلى ميادين عملها دون أن ترى أحداً أمامها، بخاصة بعد التصريحات الأوروبية الرسمية التي أعلنت مراراً أن إفريقيا محجوزة ومشغولة مسبقاً ولا مجال لأحد آخر في الميدان.
وروسيا دولة قوية مؤثرة لديها ما تعطيه لهذه الدول الإفريقية مستندة إلى عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وقدرتها على تعطيل أو تخفيف أي قرار دولي يستهدف حلفاءها، وعلى خبرة عسكرية عريقة في مجال التصنيع الحربي والخدمات الأمنية.
كما أن روسيا لا تنظر بعين استعمارية إلى إفريقيا، وهي تتخذ سياسة حاسمة تجاه عدم جواز التدخل في الدول وانتهاك سيادتها، واحترام معالجاتها لمشكلاتها الداخلية لأنها أدرى بها.
كما أن روسيا لديها سياسات مرنة في التعامل الاقتصادي مع إفريقيا، وقد استفادت من أخطاء التجربة الصينية وأسلوبها القاسي في تحصيل ديونها، وأخطاء التجارب الأوروبية التي تضع اشتراطات سياسية في الملف الاقتصادي؛ كما أن إمكانية إخراج روسيا من أية دولة إفريقية تبقى قضية سهلة مقارنة بإخراج فرنسا التي تتشبث بكل قوتها بمستعمراتها القديمة؛ كما أن الولايات المتحدة لا تمانع في أي إضعاف للدور الفرنسي في إفريقيا، ولم تتخذ واشنطن حتى الآن سياسة اعتراضية واضحة ضد الوجود الروسي النشط، وكأنها تعتبره في مرحلة قابلة للمواجهة خاصة مع وجود منافسين آخرين لروسيا مثل الصين وتركيا.
وقد أكدت روسيا انفتاحها على إفريقيا وأعلنت سياستها بوضوح من خلال قمة سوتشي في أكتوبر 2019 وقد كانت قمة استعراضية للنفوذ الروسي وتحدياً واضحاً لأوروبا وفرنسا تحديداً حيث حضر القمة 43 رئيس دولة من أصل 54 دولة، مع حضور ممثلين رفيعين من بقية الدول؛ ولم تكن هذه القمة عبثاً فقد سبقها توقيع نحو 19 اتفاقية تعاون عسكري روسي إفريقي خلال ستة أعوام من 2014 إلى 2019.
وبما أن روسيا جزء من المجتمع الدولي فقد بادرت بافتتاح ذراع طويلة لها في المناطق التي لا وجود مباشر لها، وتعدّ شركة فاغنر الأمنية الروسية الخاصة أحد أهم الأدوات التي تتحرك في القارة الإفريقية بكفاءة عالية، وتمارس أعمالاً تتجاوز حدود القوانين الدولية، وتمتلك شبكة علاقات واسعة، ومنظومة اتصال آمنة، وخطوط إمداد طويلة تعتمد على مناطق الانتشار الروسي في العالم.
وقد رأت الدول الإفريقية أن هذه الشركة العملاقة ومن ورائها روسيا تقدم خدمات كبيرة في مجالات حساسة لا تمنحها فرنسا ولا غيرها بسخاء، فهي تقوم بمهمات أمنية خاصة كبيرة ونوعية، ولا علاقة لها بسياسات الدول واتجاهاتها ولا تتدخل في شؤونها، كما تقدم خدمة محترفة في تأمين المواقع الحساسة والاستراتيجية مثل حقول النفط والغاز، ومناجم الذهب والألماس واليورانيوم التي تشتدّ حولها النزاعات وتتكاثر العصابات؛ كما تقدم خدمة الحماية البحرية والجوية، وتؤمّن الشخصيات المهمة التي لم تعد تثق بمن حولها، وتشارك في التصدي للحشود والتظاهرات الكبيرة وتمتص هجماتها العشوائية، كما أنها تدرّب العناصر الإفريقية في مجالات الأمن والسلامة والتجسس، والأهم من ذلك أنها توفر وسائل نقل آمنة للسلاح والذخيرة والأشخاص والسلع المحظورة دون اعتبار لأي قرار دولي، لاسيما أنها قادرة على إخفاء معالم أي عملية تقوم بها، وتعمل بغموض عميق والتزام كامل بالسرية، ولديها تغطية جاهزة.
واللافت أن هذه الشركة لا تقبض أموالاً مباشرة من الدول الإفريقية الفقيرة بل تحصل على أجورها من أرباح الشركات والمواقع التي تحرسها أو تديرها، وتشارك هذه الدول أرباحها وفق نسب متفق عليها؛ وهذا الأمر مريح جداً لهذه الدول التي لا تدفع مقدّماً.
ولا تزال كل من فاغنر وروسيا لم تدخل في عمليات مكافحة "الإرهاب" في إفريقيا، لأن هذه الكيانات المتهمة بالإرهاب لها وجود نشط وقوي في كثير من دول الصحراء الإفريقية، ومن شأن ذلك استفزاز تلك الجماعات لاستهداف روسيا الناهض في القارة الإفريقية، حتى إن فاغنر لم تتردد في الانسحاب من موزمبيق في شرق إفريقيا عندما هاجمتها مليشيات مسلحة تنتمي إلى هذه الجماعات.
وبالتأكيد فإن روسيا تستثمر أمنياً واستخبارياً في نشاط هذه الشركة، وتبني رؤاها واستراتيجيات حراكها وفق تحديثاتها، كما أنها مستمرة في تقديم البرامج التعليمية والمنح الخاصة للكوادر الإفريقية داخل روسيا، وتحاول نشر لغتها بين النخبة الأمنية والعسكرية فيها، وتنشر التقنية الروسية هناك، تمهيداً لتغيير العقيدة القتالية للجيوش الإفريقية باتجاه استخدام منظومة السلاح الروسي، ويتوازى مع ذلك نشاط قوي للشركات الروسية الكبيرة مثل غازبروم ولوكاويل وروستك وروساتوم، والتي تمكنت من عقد عشرات الاتفاقات الاقتصادية ذات الطبيعة الاستراتيجية مع عدد كبير من الدول الإفريقية، ومنها اتفاقات في مجال إنتاج الطاقة النووية.
وتأتي الدبلوماسية الروسية ذات التوجهات المحايدة تجاه هذه الدول والمعادية للسياسات الأمريكية والأوروبية لتقدم دعماً إضافياً للنفوذ الروسي المتنامي في إفريقيا؛ والذي يهدد ببروز ميادين صراع دولي جديد في إفريقيا على خلفية الصراع بين روسيا والغرب، وما الأحداث التي تجري في مالي وإفريقيا الوسطى مؤخراً ببعيد عن مشهد الصراع الدولي القادم بين فرنسا الاستعمارية التي تمثّل مصالح أوروبا، وروسيا التي تندفع بغرور هناك، وبين هؤلاء وهؤلاء ستنشأ تحالفات واستقطابات حادة ستوتّر في إفريقيا أكثر وأكثر.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.