في 18 ديسمبر/كانون الأول عام 1973، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية سادسة إلى جانب اللغات الإنجليزية، والروسية، والفرنسية، والإسبانية والصينية.
ومنذ عام 2012، بدأ إحياء اليوم العالمي للغة العربية سنوياً في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول، ويحمل الاحتفال العالمي باللغة العربية لعام 2023 عنوان: "العربية: لغة الشعر والفنون".
يقدّم الاحتفاء بالثقافة العربية من خلال عنصرين أساسيين، هما النسيج الشعري والمخزون الفني، إلى جانب إبراز الهوية العربية فرصةَ تمكِّن من إبراز الدّور الذي لعبه الشعر على الصعيدين الاجتماعي والسياسي في المجتمعات العربية.
وخدم الشعر والأشكال الفنية العربية الأخرى، سواء الأدبية أو البصرية على حد سواء، أغراضاً تتراوح بين قوّة الانتماء وتعزيز القيم والحب والفخر والثورات الشعبية والصراع، فضلاً عن حثّ المجتمعات على تغيير مصيرها.
العربية وسياقات التطور
يتحدث اللغة العربية اليوم أكثر من 400 مليون شخص في منطقة جغرافية تمتدّ من الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية إلى شمال إفريقيا وآسيا.
وهي لغة القرآن بوصفه "رسالة إلهية" التي وسِعتها العربية لفظاً ومعنى، حتى أصبحت مهمة لأكثر من مليار مسلم حول العالم، وهي كذلك لغة علوم رئيسة، وإحدى ركائز الحضارات البشريّة.
تنطوي اللغة العربية على تناقضات فريدة شكّلت مصدراً لقوّتها وتميّزها، فقواعِدها اللغوية معقَّدة لكنها في غاية الدقة، وأبجديّتها صعبة لكنّها فنية.
وهذه القوة الداخليّة للعربيّة هي التي دفعت الحكّام العباسيين الذين اتخذوا من بغداد عاصمة لهم، إلى دعم المفكّرين للمساهمة في التطور الفكري للإمبراطورية بأعمال بالعربية وقبلها بترجمات إليها.
وعلى سبيل ذلك، بُذلت جهود منهجية لجمع عشرات الآلاف من الكتب في مجموعة ضخمة من المواضيع، شملت الحساب والفلسفة والفيزياء والهندسة والموسيقى والكيمياء والطب، ترجمت إلى اللغة العربية.
وقد استخدم العلماء العرب هذه النصوص المترجَمَة كنقطة انطلاق مكّنتهم من إنتاج أبحاثهم الخاصة، وعلى إثر ذلك أسّس الخليفة هارون الرشيد "بيت الحكمة" أو (خزائن الحكمة)، لتكون نقطة تجمع الباحثين ومواصلة البحوث العلمية وتطويرها وحفظها.
وقد نتج عن هذا المجهود الضخم الذي أغناه الخليفة المأمون، توسع وانتشار العلوم العربية.
وضمّت مكتبات العواصم الإسلامية ذخائر من المخطوطات ومن أبرزها مكتبات بغداد والقاهرة وقرطبة وفاس والقيروان وغيرها، وضمت مئات آلاف من الأعمال في اختصاصات متعددة في العلوم والآداب.
وكذلك، انعكس المنهج التجريبي الذي اعتمده العلماء العرب وتصحيح المقولات العلميّة والجغرافية السابقة، في تقدم البحث العلميّ وتحسين الحياة اليومية، لا سيما في مجالَي الطب والزراعة؛ فأصبحت اللغة العربية مركز اهتمام العلماء والطلبة من جميع أنحاء العالم.
ومع حلول القرن العاشر الميلادي، ازداد تدفق المعلومات من الشرق إلى الغرب، وبدأت ترجمات العلماء العرب تصل تدريجياً إلى الغرب، مما فتح آفاقاً جديدة في مجال العلوم في أوروبا.
جدلية التطور والركود
يقودنا النّظر إلى اللغة باعتبارها كياناً اجتماعياً يسري عليه قانون الحتمية الطبيعية الذي ينص على أن اللغة تتطوَّر وتتغيَّر مع الزمن، إلى إدراك تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في تراجع مساهمة اللغة العربية الحضاري بعد العصور الذهبية التي عاشتها.
وفي حين كانت أوروبا تنشط علمياً وثقافياً وفكرياً، وتحديداً في القرن السادس عشر ميلادي، واجه الإنتاج العلمي العربي خطر الانهيار؛ نتيجة التحولات السياسيّة في المجال الثقافي واللغوي العربي.
للوصول إلى نتيجة واضحة للعلاقَة السببيّة بين "الركود اللغوي" و"التطور الحضاري" يمكننا القول إن هناك تفاعلاً متبادلاً بين اللغة والفكر، فالتقدّم الثقافي والعلمي والفلسفي يغذّي اللغة ويسمو بها إلى التطور الحقيقي.
وبعبارة أخرى، في حين يستخدم كلّ من العلم والفكر اللغةَ لأداء وظائفهِما الخاصة، يثريان اللغة أيضاً، وعلى العكس من ذلك، فإن التقصير في مجالات البحث، ونقص المنهجية والمعرفة يؤدّيان إلى تدهورها.
ورغم أن النمو والتطور النسبي الذي شهده العالم العربي في القرن الماضي قد أثَّر إيجاباً على مكانة اللغة العربية، إلّا أن هذا التأثير كان محدوداً وأقلّ بكثير من المستوى المنشود.
موقع اللغة العربية اليوم
إن الاستعمار والعولمة هما أكبر التحديات التي واجهتها اللغة العربية في العصر الحديث، فقد تسببت سيكولوجية الهزيمة وهيمنة اللغات الاستعمارية على اللغات المحليّة في تغيّر وضع اللغة العربية لصالح اللغتين الإنجليزية والفرنسية.وأحد الأمثلة الأكثر وضوحاً على ذلك، إعادة الصياغة اللغويّة لشعوب الدول الإفريقية التي استعمرتها فرنسا، وتكريس الفرنسية في مجالات عدّة، لا سيّما الثقافية والاقتصادية منها ولدى النخب التي أضحت فرنكفونية.
كما أنّ أحد الأسباب التي أدّت إلى تهميش اللغة العربية اليوم يكمن في التعليم المستورد وتركيزه الشديد على اللّغة الإنجليزية، وما نتج عنه من انتقال اللغة العربيّة إلى استهلاك العلوم بدلاً من إنتاجها.
وعلى سبيل المثال، نشرت الولايات المتحدة عام 1989 ما يعادل 10481 بحثاً علمياً، نشر العالم العربي بأكمله أربعة بحوث فقط، فضلاً عن ذلك، يوجد ضعف حادّ في مساهمة اللغة العربية في تكنولوجيا المعلومات.
ويقتصر الدور العربي على الاستهلاك السلبيّ للتكنولوجيا فقط، كما أن عدم التوصل إلى تفاهم بين تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين واللغة العربية، جعل من إمكانية إنتاج برامج حاسوبية تقرأ النصوص العربية بدقّة وتُترجمها إلى صيغة رقمية مهمّة صعبة التحقيق.
ومع ازدياد الفجوة الرقمية وتداعياتها، فإن مستخدمي اللغة العربية سوف يبقون في مرتبة متراجعة في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد في تغذية بياناته على ما أُنتج من بيانات بلغة معيّنة، ليكون قادراً على "التفكير" بها.
ولن يكون لديهم القدرة الكافية على الاستفادة من الفرص المتاحة في عصرنا الحديث، وذلك بسبب محدودية الوصول إلى المعلومات، ما عدا تلك التي تقدَّم باللغة الإنجليزية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.