لطالما فشلت "الديمقراطيات الغربية" في اختبار القضية الفلسطينية، إلا أنّ الفشل بدا ذريعاً وفجّاً في التعاطي مع عمليّة "طوفان الأقصى"، وما تلاها من ردّ عسكريّ إسرائيلي في غزة، وارتكاب جرائم موصوفة ومتواصلة ضدّ المدنيين العزَّل، كما أكدت الأمم المتحدة.
خلال ما يربو على ثمانية عقود من الزمن، لعب الغرب دور مظلّة حماية استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي وغير الديمقراطي، ومنذ بداية القضية الفلسطينية قدّمت "الديمقراطيات الغربية" دعماً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لإسرائيل.
بدأ الأمر مع بريطانيا التي قدمت "وعد بلفور" وسهّلت قيام تأسيس إسرائيل، ثم تلتها فرنسا التي بنت المشروع النووي وسلاح الطيران الإسرائيليّين.
كما وقفت الولايات المتحدة في صفّ إسرائيل خلال محطات عدّة يظل من أبرزها الجسر الجوي في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وصولاً إلى الدعم دبلوماسياً وسياسياً وأمنيّاً وإعلامياً خلال الحرب الحالية، ومروراً باستخدام الدبلوماسية الأمريكي حق النقض "الفيتو" لمرّات عدّة داخل مجلس الأمن، حمايةً للمصالح الإسرائيلية.
تمديد الوضع
وصدرت خلال العقود الماضية عشرات القرارات الأمميّة، سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة ومجلس حقوق الإنسان، وتقارير منظمات حقوقيّة، وقرارات مؤسسات دولية ضمنها محكمة العدل الدوليّة، لم تنفذها أو تكترث لها إسرائيل المحمية دوماً بدعم "الديمقراطيات الغربية" لها.
ومنذ السبعينيّات من القرن الماضي أطلقت "الديمقراطيات الغربية"، أي الولايات المتحدة وأوروبا، ما تُسمى "عملية السلام" بين العرب وإسرائيل، وبدا المصطلح نفسه مريباً في ظل عدم التحرك الغربي لإرساء سلام حقيقي وعادل ومستدام طوال السنوات الماضية.
وحتى مع انهيار عمليّة السلام شكلاً ومضموناً، سعت دول الغرب إلى إدارة الصراع والحفاظ على الواقع القائم ومنعهِ من الانفجار على المحيطين الإقليمي والدولي، مع تأبيد الاحتلال وإطالة أمد مظلومية الشعب الفلسطيني.
فضلاً عن ذلك، دائماً ما وضعت الديمقراطيات الغربية عملية التسوية والمفاوضات أو ما يُعرف بحلّ الدولتين، وهو الحدّ الأدنى المقبول فلسطينياً وعربياً، في سياق ترتيب المنطقة حسب المصالح الإسرائيلية.
وعدّت أمن إسرائيل وتفوقها أولوية وقاعدة للعملية برمّتها، وجعلت تطبيع وشرعنة وجودها أجندة لها، من دون النظر إلى الجرائم التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني.
وخلال العقدين الأخيرين، أي منذ مطلع الألفية الجديدة، وهَن السياق الفلسطيني لعملية التسوية التي أطلقتها الديمقراطية الغربية في مدريد - أوسلو.
كما حوَّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الحلّ المرحلي إلى دائم وممتد مع حصر دور السلطة الفلسطينية، وتوسيع سياسة الاستيطان وقتل أي إمكانية أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلّة.
ووُضعت موانع أمام أي حياة طبيعية وكريمة للفلسطينيين مع التضييق على حرياتهم ومنعهم من الاستفادة من ثرواتهم الطبيعية، التي سُخِّرت لخدمة المستوطنات غير الشرعية.
ازدواجية معايير
تؤكد تقارير مؤسسات حقوقية دولية، أبرزها "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية" و"بيتسليم" الإسرائيلية، أنّ إسرائيل تتّبع "نظام فصل عنصري" موصوفاً ضد الفلسطينيين.
هذه الاستنتاجات الموثّقة تتعاطى معها الديمقراطيات الغربية بانفصام وازدواجية، وتستخدمها فقط ضدّ خصومها والدول المنافسة، وتتغاضى عنها عندما تكون ضدّ إسرائيل.
وبالعودة إلى عملية "طوفان الأقصى" والرّد الإسرائيلي عليها، لا بدّ من التذكير بدعم "الديمقراطيات الغربية" لحصار قطاع غزة المستمرّ منذ 15 عاماً تقريباً.
بل مطالبة هذه الدول الفلسطينيين بالخضوع والاستسلام للأمر الواقع، مع قتل الآفاق والآمال أمام أجيال فلسطينية متعاقبة، وإزاحة قضيتهم عن جدول الأعمال الإقليمي والدولي.
واكتفى الغرب بإدارة الصراع عبر دعم مالي للسلطة الفلسطينية ضمن سياسة الأمر الواقع وعدم التمرّد أو الرفض، بل حتى ضمن "تجميل" الاحتلال وتخفيض كُلفته على إسرائيل.
من هنا كان انفجار غزة وأهلها متوقّعاً عبر عملية عسكريّة تندرج ضمن الحق الطبيعي للشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، حسب المواثيق الدولية كافة.
فيما انحازت الديمقراطية الغربية، منذ الوهلة الأولى، إلى جانب إسرائيل بحجّة "حقّها في الدفاع عن نفسها"، ولو كان ذلك ضدّ قواعد ومواثيق القانون الدولي.
انحياز طويل الأمد
صمتت الديمقراطيات الغربية لسنين عن اعتقال آلاف الفلسطينيين، والقتل البطيء لهم، خصوصاً المرضى منهم، مع ارتفاع وتيرة الاعتقال الإداري.
وعمد إعلامها، الذي يُفترض أنّه "حرّ ومهني"، إلى نشر أخبار كاذبة ومفبرَكة، روّجت لها الدعاية الإسرائيلية، تزعم ارتكاب المقاومة "جرائم وفظائع" وهميّة، و"قتل الأطفال" و"اغتصاب النساء"، في تناقض مع أبسط قواعد العمل الإعلامي وأخلاقياته.
كما صوّرت حركة حماس كتنظيم "داعش" الإرهابي، لا كحرَكَةَ تحرّر وطني، ما يمثل إهانة للشعب الفلسطيني كلّه وتحريفاً لقضيّته العادلة ونضاله المشروع في سبيل تحقيق آماله الوطنية.
ثم وصلت ازدواجية "الديمقراطيات الغربية" إلى حدّ إرسال حاملة طائرات وسفن حربية لدعم الجيش الإسرائيلي المفترض أنّه الأقوى في مواجهة آلاف المقاتلين الذين يملكون أسلحة أقل قوة، لكن إرادتهم عالية وإيمانهم بعدالة قضيتهم أقوى.
بالعموم، تجند الغرب لدعم جيش الاحتلال مع فتح نافذة سياسية وزمنيّة أمامه للانتقام من غزة وتدمير بناها التحتية، واستهداف سكّانها المدنيين العزّل، علماً أنّ نصفهم من النساء والأطفال والشيوخ.
صمت أمام الحصار
كذلك غضّت "الديمقراطيات الغربية" البصر عن الحصار المطلق لغزّة طيلة أيام، ومنع الغذاء والدواء والكهرباء والماء عنها، وتهجير الفلسطينيين المخالف لقوانين الحرب، مع اتباع سياسة "الأرض المحروقة"، المحرّمة وفق القانون الدولي.
وتلكأت هذه الحكومات في الحديث عن التهدئة ووقف إطلاق النار والعمل على فتح ممرات إنسانية، طيلة أيام، لإعطاء إسرائيل الفرصة للتنكيل بغزة.
وبعد أيّام، أمام فظاعة الجرائم الإسرائيلية والمشاهد الصادمة القادمة من القطاع، بتنا نسمع كلاماً عاماً وضبابياً ومخادعاً ووساطات متأخرة لفتح ممرات إنسانية.
وغاب أي حديث سياسي جدّي عن التهدئة ووقف إطلاق النار، وجرى تناسي عدالة القضية الفلسطينية وإيجاد حل شامل لها، ولو كان نظرياً كما جرى بعد غزو العراق، حين تأكدت النية في عمل منسق وجماعي بغية إيجاد حلّ عادل ومستدام للقضية.
إلى ذلك كله، تقوم "الديمقراطيات الغربية" بحملة ضغط فاضحة على الأنظمة العربية الحليفة لها؛ للتغطية على الحقيقة وإجبارها على الانسياق مع المواقف المنحازة للغرب على حساب عواطف الشعوب ومشاعرها.
وفي الأخير، هذا ليس غريباً على الديمقراطيات الغربية التي رعت الاستعمار القديم وتجاوزاته بل فظائعه في إفريقيا والعالم الثالث عموماً.
ثم عمدت إلى رعاية الاستعمار الجديد عبر نهب خيرات الشعوب المظلومة وثرواتها ودعم أنظمتها الاستبدادية الفاسدة مع احتضانها ولعقود نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
والآن يتبدى ظلمها وفشلها التاريخي كلُّه عبر احتضان ودعم آخِرِ استعمار، ببُعدَيه القديم والجديد، في فلسطين.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.