بيد أنه كان يفترض أن تمر ذكرى سقوط نظام الأبرتايد في جنوب إفريقيا 30 مارس/آذار 1990 طيّاً لصفحة التمييز العنصري ليس في جنوب إفريقيا فحسب، بل في العالم بأسره وبخاصّة العالم الذي تصنّف دوله ضمن دول العالم الحرّ، ومجتمعاته ضمن المجتمعات المتحرّرة من ثقافة القرون الوسطى ثقافة العبوديّة والتفوّق العرقي.
نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تمكّنت بمقتضاه الأقليّة البيضاء من التحكّم في مصائر شعوب المنطقة منذ عام 1948 حتى تم إلغاء هذا النّظام رسميّاً 30 مارس/آذار 1990.
كما أنه في عام 1993 قررت لجنة جائزة نوبل للسلام إسناد جائزتها بالمناصفة إلى المناضل نيلسون مانديلا ورئيس جنوب إفريقيا فريدريك دي كليرك تكريماً لهما على نجاح المفاوضات التي أفضت إلى إسقاط آخر قوانين الفصل العنصري، وإنجاز مصالحة بين مكوّنات المجمتع الجنوب إفريقي، لتعقد أوّل انتخابات ديمقراطية سنة 1994 وينتخب مانديلا رئيساً للبلد الذي قضى فيه أكثر من نصف عمره بين النّضال والسّجون.
كان لا بدّ لنظام الأبرتايد أن يسقط، لأنّه شكّل أبشع صورة عن ثقافة الرّجل الأبيض القائمة على التفوّق العرقي وتصنيف الشّعوب والحضارات والثّقافات، ضمن ترتيب تفاضلي جعل بعض الشّعوب في أسفل السلّم. كان بقاؤه إدانة لهذه الثّقافة التي عبّر عنها فلاسفة مرموقون يصنّفون ضمن فلاسفة الأنوار.
وهذا دايفيد هيوم الفيلسوف البريطاني صاحب المنهج التّجريبي في دراسة الطّبيعة البشريّة، يعتبر الزنوج أدنى منزلة من البيض بل هم في أدنى سلّم الذّكاء والمواهب الفطريّة، ويفسّر بقاء الزّنوج في وضع التخلّف والدّونيّة بعد انتقالهم من مواطنهم الأصليّة إلى العالم المتحضّر بلونهم وعرقهم، حيث لم يبرز منهم العلماء والفنّانون رغم تحرّرهم من العبوديّة، فلون البشرة عنوان على الاستعدادات العقليّة.
بل كان العقد الاجتماعي لروسو فيلسوف التنوير قائماً على المركزيّة الأروبيّة وشعوبها المؤهّلة للتّعاقد وعقولها القابلة للتنوير.
وهذا إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني يقسّم الأجناس البشريّة في هرمه العرقي، فيجعل الهنود في أدنى سلّم الذّكاء، فاللون محدِّد للأفضليّة العرقيّة ومحدِّد للمواهب الطبيعيّة بل حتّى للخصائص الوجدانيّة والبناء النّفسي، حيث اعتبر الهنود متبلّدي الذّوق فقراء عاطفيّاً، وبمقتضى هذا التّصنيف العرقي جعل الرّجل الأبيض هو الإنسان الكامل ضمن منظومة فلسفيّة عنوانها الأبرز الفلسفة الأخلاقيّة.
كانت هذه الثّقافة العنصريّة مبرِّرة لاستعباد أجناس وأعراق واستعمار شعوب بقصد تنويرها وإخراجها من دوائر التخلّف المتأصّل، وجعلها في خدمة الرّجل الأبيض الذي انتخبته الطّبيعة للتّفكير العلمي والفلسفي وبناء الحضارة وقيادة العالم.
هذا التّصنيف التّمييزي مارسته المركزيّة الأروبيّة على شعوب إفريقيا وشعوب الشّرق عموماً، ولا سيما المسلمين والعرب الذين وصمهم رينان في محاضرة شهيرة عنوانها الإسلام والعلم بضعف التّفكير العقلي المجرّد وبغض الفلسفة، مع استعادته لنفس التقسيم التفاضلي التّمييزي للشّعوب حيث اعتبر العرب بدواً، والأتراك منحطّين أخلاقيّاً وعقليّاً، وقد ردّ جمال الدّين الأفغاني على هذه الأطروحة العنصريّة.
ويمكن أن تستعرض أمثلة عن عشرات الفلاسفة المصنّفين ضمن فلاسفة التّنوير، وما حفلت به كتبهم من مواقف عنصريّة لا تزال تشكّل القاع الأنطولوجي للضّمير الجمعي للنخب الغربيّة الماسكة بزمام السّلطة، أو التي تنتج المعرفة والرّموز والقيم، فضلاً عن عموم شعوب الغرب التي لا تزال مسكونة بالمعياريّة الثّقافيّة القائمة على التّمييز باعتبار الأصل الطبيعي للأعراق والأجناس.
هذه المعياريّة هي التي تفسّر تواصل التمييز العنصري والإسلاموفوبيا وكره الأجانب رغم ما حقّقته فلسفة حقوق الإنسان من إنجازات قانونيّة وسياسيّة بحقّ المختلف عرقاً ولوناً.
لقد بيّنت العلوم الحديثة بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ صفاء العرق خرافة، والتّفاوت باعتبار اللون والجنس والعرق أسطورة سياسيّة لتبرير اضطهاد الشّعوب، ونهب خيراتها، واستخدام مواطنيها الذين لم يرتقوا إلى مرتبة الإنسان بعد، بديلاً للمواطنة التي تعني المساواة في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص دون تمييز باعتبار الجنس أو العرق أو اللون أو الدّين أو الجهة أو أيّ شكل من أشكال الانتماء.
هذا التصوّر المثالي للمواطنة يصطدم بموروث عنصري ضارب في القدم، عميق الغور في ثنايا الذّاكرة والثّقافة الغربيّة، منذ أرسطو إلى مارتن لوثر فيلسوف الإصلاح، الحامل لأشدّ الأفكار تعصّباً وعنصريّة ضدّ اليهود والسّود، إلى فلاسفة التنوير، بل تمتدّ إلى فلاسفة ما بعد الحداثة الغربيّة، فهذا دريدا فيلسوف الاختلاف بلا منازع صرّح في إحدى محاضراته بما صدم متابعيه، حيث اعتبر أن لا وجود لفلسفة خارج دائرة العقل الغربي، بما يعني إعادة إنتاج نفس براديغم أصل الأجناس وأنماط العقول وتفاضل الأعراق والشّعوب باعتبار الأصل الطبيعي لا التاريخي.
لا يمكن في تقديرنا القضاء على التمييز العنصري دون تحرير شعوب الغرب وعقول نخبها الفكريّة والسياسيّة من هذه الرّواسب الثّقافيّة المقيتة، حيث لا يكفي تغيير القوانين ما لم تتغيّر العقول.
كما لا يمكن القضاء على العنصريّة دون القضاء على مخلّفاتها المتجذّرة اجتماعيّاً، حيث لا يزال السّود في جنوب إفريقيا وغيرها من دول إفريقيا يعيشون تحت خطّ الفقر وخارج دوائر التّنمية والدّورة الاقتصاديّة وكرامة العيش.
لا تزال إفريقيا القارّة تخضع لهيمنة الاستعمار القديم النّاهب لثرواتها، والمعطّل لديمقراطيّاتها، والدّاعم لأنظمة الحكم الدّكتاتوريّة في دولها، ووراء الانقلابات على حكوماتها المنتخبة.
في جنوب إفريقيا سقط نظام الفصل العنصري الذي ميّز بين البيض والسّود في أبسط الحقوق الأساسيّة، كالتنقل والإقامة والعمل والتّعليم والزّواج المختلط، ولكن بقي إرث الأبرتايد الذي خلّف الفقر العنصري والبؤس العنصري.
وفي فرنسا باسم مقاومة ما سُمّي بالانفصاليّة أو الانعزاليّة الإسلامويّة، يجري صياغة قانون يكرّس الفصل التمييزي ضدّ المسلمين، الذي يجعلهم أمام خيارات مرّة: الذّوبان والتفسّخ، أو الانعزال والانكفاء على الذّات، أو سحب الجنسيّة والطّرد من جنّة الأنوار اللائكيّة.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.