هؤلاء الرجال البيض الذين يرتدون ثياباً تطغى عليها ألوان العلم الأمريكي، وبعضهم يعتمر قبعات Make America Great Again الترمبية، أحضروا عاداتهم الاحتفالية من حدائق بيوتهم الخلفية إلى العاصمة. آخرون يتجولون بشاحناتهم ترفرف عليها رايتا الولايات المتحدة وترمب. معظم الفنادق محجوز مع أن اليوم التالي الذي سيجري فيه تثبيت فوز جو بايدن بالرئاسة لم يكن يوماً مدعاة للاحتفال، لأنه مجرد إجراء رسمي يمرّ في العادة دون أن يلتفت إليه أحد.
ما الذي جاء بهؤلاء إلى العاصمة؟ ليس شواء اللحم بالطبع. جاؤوا تلبية لطلب رئيسهم للذود عن الديمقراطية و"منع سرقة الانتخابات". طوال الأشهر الفاصلة بين إعلان نتائج الانتخابات والسادس من يناير/كانون الثاني، خاض الرئيس عبر تويتر، ومجموعة محامين غريبي الأطوار، وإعلام وإعلاميون مناصرون، وسياسيون جمهوريون، وجيوش من المتطرفين على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يشبه غسلاً جماعياً للأدمغة، استخدموا فيه كل ما استطاعوا من وسائل لتأكيد أن مؤامرة هائلة حاكتها المنظومة السياسية ضدّ أمريكا وشعبها بقلب نتائج الانتخابات للتخلص من ترمب، المنقذ.
في اليوم التالي، كالمسحورين، مشى هؤلاء صوب الكونغرس مباشرةً بعد فراغ ترمب من إلقاء خطابه الناري. ذهبوا إلى المبنى الأعرق، والأعلى في العاصمة، "ليجهضوا المؤامرة". ما حدث لاحقاً هو ما لن تنساه الولايات المتحدة قريباً. اقتحام الرمز الأول للديمقراطية الأمريكية بدا كعاصفة عاتية ستطيح، أول ما تطيح، بالفكرة المؤسسة للاتحاد نفسه، القائمة على بديهية تقديس الأمريكيين، مهما تناقضت ميولهم السياسية، للثوابت الوطنية التي منها هيبة المؤسسات الراسخة والدستور والتقاليد والأعراف التي تقول بتميُّز التجربة الأمريكية. كسر قدسية المبنى لم يكن بتحطيم بعض أبوابه وترهيب المشرعين ومنعهم من إتمام واجبهم في تثبيت انتخاب الرئيس، بل في انفتاح أسوأ الاحتمالات على غاربها، لأن الأمريكي المستعد للهجوم على الكونغرس دفاعاً عن مؤامرة، هو بلا شك مستعد لأي أمر آخر.
لكنها كانت العاصفة الأخيرة والأقوى التي يثيرها ترمب. تَوحَّد الأمريكيون للمرة الثانية في غضبهم ضد الاقتحام الذي أيقظ فيهم ذكرى الحادي عشر من سبتمبر/أيلول دفعة واحدة. ردة فعل بدا معها أن ترمب قضى لمرة واحدة وأخيرة على مستقبله السياسي وعلى صورته كقائد للحركة التي باتت تُعرَف باسمه، والتي إلى الآن لا أحد يعرف ماهيتها بالتحديد، أو إلى ماذا تسعى، أسفل شعاراتها المختصرة الرنانة. لكن المتفائلين بنهاية ترمب سرعان ما خاب ظنهم، في اليوم نفسه، فيما جلسات الكونغرس تنعقد من جديد، ويعود معظم الجمهوريين إلى التشكيك بنتائج الانتخابات.
في قياسات الربح والخسارة، عاد ترمب ليغادر البيت الأبيض منتصراً، بعدما أفشل الجمهوريون خطة الديمقراطيين للحكم عليه وطرده، ولو قبل أيام من نهاية ولايته. ومهما كانت التبريرات التي ساقها قادة الجمهوريين يومها للتصويت ضد اتهامه، فقد كان واضحاً أنه ليس الرجل الأقوى في الحزب الجمهوري، بل إن الحزب دخل تحت عباءته، ولا شيء يشي بأنه سيخرج منها قريباً.
بعد عام كامل على اليوم الذي بات يسمى اختصارا J6، ما زال نحو 68% من الجمهوريين يعتقدون أن الرئاسة سُرقت من ترمب، أي أن تزويراً في الانتخابات وقع لصالح منافسه.
هذا التشكيك بنزاهة الانتخابات لا يقلّ خطورة عن اقتحام الكونغرس، لكن الديمقراطيين لن يستطيعوا شيئاً حياله. هم أصلاً يسابقون الزمن لتخرج اللجنة النيابية المكلَّفة التحقيقَ في أحداث السادس من يناير بنتائجها قبل نوفمبر/تشرين الثاني المقبل موعد الانتخابات النصفية، إذ تشير التوقعات إلى أنهم سيخسرون الأكثرية في مجلس النواب لصالح الحزب الغريم الذي من المتوقَّع بدوره أن يحلّ اللجنة وينهي التحقيق.
والديمقراطيون ليسوا معنيين الآن بالبحث عن إجابات عن الأسئلة "الأخلاقية" الكبرى حول الأسباب العميقة التي تجعل عشرات ملايين الأمريكيين يرفضون البنيان السياسي برمته، حدّ عدم الاعتراف بشاغل المكتب البيضاوي الحالي، وتطويب الملياردير بطلاً ثورياً تغيير يهابه كبار الجمهوريين قبل صغارهم، لأن حياتهم السياسية تتوقف عند رأيه فيهم.
الديمقراطيون ليسوا قادرين على الإجابة عن سؤال الهوية الذي جاء بترمب في المرة الأولى رئيساً، الهوية التي تتعلق أولاً وأخيراً بالعِرْق. الصورة التي علقت في الذاكرة عن هؤلاء الذين اقتحموا الكونغرس كانت لرجال يرتدون أزياء غريبة، ويمكن اختصارهم بمتطرفين بيض. لكن تحقيقات "إف بي آي" أظهرت أن بين هؤلاء المهاجمين الكثير من العاديين، أطباء ومهندسين وجنوداً متقاعدين وموظفي بريد. الجيران العاديون الذين تتبادل معهم تحية الصباح ولا شيء فيهم يوحي بأنهم مستعدون لفعل ما فعلوا أو أن يكونوا في الأصل ترمبيين. هؤلاء إذا خرج ترمب من الجمهوريين سيخرجون معه ويقضون بالتالي على الحزب، وهم أيضاً قضية خاسرة للديمقراطيين الذين يعرفون أن إضاءة أصابع الحزب العشر بالشموع لن تقرّبهم منهم. بدلاً من إضاعة الجهد عليهم، سيفضِّل الديمقراطيون التركيز على حربهم المستمرَّة ضد ترمب، وتحفيز قواعدهم الصلبة والمترددة ضد هذا الخطر الذي قد يطلّ برأسه مجدداً بعد عامين فقط، ويقف عند بوابة البيت الأبيض، مطالباً باسترجاع حقه المسلوب عبر صناديق الاقتراع.
في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020 كان السؤال عما إذا كانت الترمبية باقية بعد رحيل ترمب عن البيت الأبيض مشروعاً. في الذكرى الأولى للسادس من يناير/كانون الثاني، وبينما الرئيس جو بايدن يعدل عن قراره بعدم ذكر الرئيس السابق قط، ويهاجمه بشدة في خطابه في الكونغرس، بدا السؤال عن الترمبية خبراً سابقاً وباهتاً عفا عليه الزمن. من الواضح أن الديمقراطيين يتعاطون مع ترمب كخطر هائل قائم ليسوا مستعدين للاستخفاف به كما فعلوا أول مرة حين كان مجرد نجم تليفزيوني ذي طموح يثير السخرية. خطر جعلهم يحوّلون ذكرى السادس من يناير/كانون الثاني من العام الحالي إلى ما يشبه مهرجاناً انتخابياً. ليس لديهم ترف الغرق الفكري في نقاش المعضلة الترمبية، وجذورها وأسبابها، عليهم في البداية التصدي لها. لا وقت لديهم إلا للواقعية السياسية، ووحولها ودهاليزها. إنهم في حرب.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.