أجْهَز الرصاص على الفتى نائل مرزوق، وفجّر غضب الأوساط الشبابية التي أثقلها التهميش والإقصاء، حيث عزّز مقطع مرئي وثّق قتل الفتى ذي الـ17 عاماً برصاص الشرطة الفرنسية من مسافة قريبة، مصداقية الشكاوى التقليدية من تجاوزاتها، حتى إنّ وزير الداخلية جيرالد دارمانان، المعروف بخطابه المُغالي، عدّ المقطع "صادماً".
تُعدّ الشرطة الفرنسية أكثر جاهزية للاحتكاك والقسوة وإطلاق الرصاص القاتل مقارنةً مع دول أوروبية أخرى، مستفيدةً من غطاء تشريعي سابغ. سمح القانون في عام 2017 لعناصر الشرطة بإطلاق النار في حالة عدم الامتثال لأوامر التوقّف، وضيّق قانون "الأمن الشامل" في عام 2021 فرص كشف تجاوزات الشرطة عندما حظر تصويرها.
من المألوف اشتباه عناصر الشرطة الفرنسية بـ"شباب الضواحي" على أساس إثنيّ، وقد تتحرّك أصابع رشيقة على الزناد عند الملاحقة.
وتفيد تقارير بأنّ احتمالات إخضاع أشخاص للتفتيش على أيدي الشرطة تقفز إلى عشرين ضعفاً -إن بدَوْا من خلفية عربية أو إفريقية- ولا تنفكّ الحالة عن تفشّي ميول يمينية ونزعات عنصرية بين منتسبيها.
اندلع الغضب من أجيال وفد أجدادها للعمل الشاقّ في فرنسا دون أن يجد الأحفاد أبواباً مفتوحة لهم في واقع ينزلق نحو أقصى اليمين وتتخلّله تقاليد تفرقة، تتنزّل على "فتيان الضواحي" إملاءات "الاندماج" ووصمة "الانفصالية" وشبهة "التطرّف"، وتتضاءل حظوظهم في التوظيف الجيّد أو الصعود الاجتماعي؛ بسبب عراقيل غير مرئية أو "سقف زجاجي" يُعيقهم.
وفي فرنسا اليوم، يُشار -على استحياء- إلى دوافع عنصرية ربّما لازمت عنف الشرطة نحو مكوّنات معيّنة؛ فمعنى ذلك أنّ الشرطة ظلّت فوق الشبهة والشك والمساءلة تقريباً إلّا في نطاقات محدودة، رغم تقارير حقوقية رصدت تجاوزات جسيمة وتحدّثت عن عنفٍ منهجي "مُشبّع بالعنصرية".
سلكت القيادة والسلطات في فرنسا مسلك الإنكار والتجاهل، حتى عندما انفجر الغضب بصفة مماثلة تقريباً في عام 2005، بعد أن تسبّبت الشرطة في مقتل اثنين من فتية الضواحي وإصابة ثالث بحروق جسيمة. استغلّت المنافسات الشعبوية التي تستبدّ بالطبقة السياسية الفرنسية "شغب الضواحي" المتكرِّر، حتى إنّ وزير الداخلية آنذاك نيكولا ساركوزي، الذي كان يستعدّ وقتها لولوج الإليزيه، أقدم في نهاية مايو/أيار 2006 على شتم فتية الضواحي خلال جولة ميدانية ونعتهم بـ"الرِّعاع".
وأظهرت موجة الغضب أزمة ثقة عميقة تتخلّل تجمّعات مدينية تجد نفسها في مرمى شرطة تستسهل إطلاق النار على شبابها، وتماثل الغاضبون مع الفتى نائل معنوياً، لأنّه ما كان ليُردَى قتيلاً لو أنّه "فرنسي نمطي" أو من قاطني مراكز سكنية محظية.
إنّها ليست أمريكا، ففي فرنسا يحظى عنف الشرطة بحماية قانونية وسياسية وإدارية تقليدية، ولا يساعد انزلاق الوسط السياسي نحو أقصى اليمين على مراجعة نهج الدولة وأجهزتها؛ خصوصاً عندما يتضرّر منها العالقون في الهامش.
إذا استوعبت الولايات المتحدة إلى حدّ ما دروس الغضب الذي أعقب مقتل الأمريكي من أصل إفريقي، جورج فلويد، في مايو 2020 على أيدي الشرطة، وشهدت تضامناً جارفاً في الشارع تحت شعار "حياة السود مهمّة"؛ فإنّ فرنسا لم تتهيّأ لمثل هذا بعد، فانطلقت على النقيض من ذلك حملة تبرّعات لصالح ضابط الشرطة الذي قتل نائل، ما يُوحي بعلوّ الاستقطاب وبسعي أقصى اليمين إلى الاستثمار الشعبوي في الاضطرابات.
هيمَن المنطق الأمني المشبّع بأيديولوجيا "قِيَم الجمهورية" على إدارة ملفات داخلية فرنسية، على نحو شجّع التعامل الصارم مع التنوّع المجتمعي والثقافي في أحشاء الجمهورية، واتّسعت الفجوة في غضون ذلك بين السلطات والجمهور، إلى حدّ إقرار البرلمان الفرنسي في أبريل/نيسان 2021 قانون "الأمن الشامل" متضمّناً المادة 24، التي أثارت اعتراضات عارمة في خريف عام 2020، حيث تجرّم تلك المادة نشر صوَر عناصر الشرطة "بنيّة سيِّئة"، ما أوحَى بخشية السلطات من فضح التجاوزات.
كانت فرنسا خلال السنوات الأخيرة مسرحاً لغضب الشارع ولعُنف الشرطة في آن واحد، لا يقتصر عنف الشارع على "فتية الضواحي"؛ فقد تخلّل مظاهرات "السترات الصفراء" بدءاً من عام 2018، والفعاليات الرافضة لرفع سنّ التقاعد في مايو 2023، علاوةً على مناسبات نمطية مثل "يوم العمّال".
كما أنّ جائحة "كورونا" عزّزت دور الشرطة في مراقبة المجتمع بمقتضى الأولوية الصحية، واحتجب المجتمع المدني نسبياً بمقتضى "التباعد الاجتماعي" و"المكوث في المنزل"، واقترفت قوات الشرطة انتهاكات خلال ذلك، منها الاعتداء على منتج موسيقيّ من خلفية إفريقية في باريس يُدعى ميشال زيكلير، وأطلقت نعوتاً عنصرية خلال التنكيل به، حيث وثّق مقطع مصوّر الواقعة الصادمة التي جرت يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، فكشف طريقة الشرطة في الاعتداء على أفراد من "خلفية مهاجرة".
ليست تجاوزات الشرطة سلوكيات معزولة عن توجّهات الحُكم وميول المتصدِّرين، أو عن خطاب جمهوري مهيْمن، فالنخب الفرنسية التقليدية عالقة في جوف فقاعة الإنكار والتجاهل والانزلاق اليميني؛ التي تحرِّض على لوْم فتية "الضواحي" والرِّهان على السطوة الأمنية وسياسات الإملاء الثقافي التي يعتمدها حرّاس المعبد بذريعة "حماية قيم الجمهورية".
لا يقوى القوم على مساءلة خطاب "الجمهورية" ونهجها في مواجهة التنوّع الثقافي لصالح تصوّرات مركزية مهيْمنة، فقبل اندلاع هبّة الفتى نائل عبّرت الحكومة عن هوس جديد يسكنها، عندما أعرب وزير التعليم عن صدمته لأنّ تلاميذ مسلمين في نيس أدّوا الصلاة، فأصدر بياناً خاصّاً بهذه الشأن في 16 يونيو/حزيران 2023، ونعت الوزير باب ندياي ذلك بـ"الأمر الخطير الذي لا يُطاق، لأنّه هجوم على العلمانية التي تحكم فرنسا".
وأطلق الموجة الجديدة عمدة نيس اليميني، كريستيان إستروزي، الذي وصف صلاة التلاميذ المسلمين في المدرسة بأنّها "أفعال خطيرة"، واشتهر إستروزي بمواقف وتصريحات مناهضة للمسلمين، مثل دعوته في عام 2020 إلى "تدمير الفاشية الإسلامية"، أو الزوبعة التي أثارها في عام 2016 ضد سباحة المسلمات أو مكوثهنّ على الشاطئ بملابس محتشمة.
من عادة كبار المسؤولين الانخراط في مزايدات تصعيدية أحياناً، يتقدّمهم وزراء الداخلية أو حتى الرئيس الفرنسي نفسه، كما جرى عام 2020 في حملة الانزعاج الرسمية من وجود أطعمة حلال في المدارس. استعادت فرنسا بعضاً من تقليد "مطاردة الساحرات" في العصر الوسيط؛ مثلاً لدى ظهور رئيسة اتحاد الطلبة في جامعة السوربون، مريم بوجيتو، على شاشة فرنسية لأوّل مرّة يوم 19 مايو 2018. عمّت الصدمة لأنّ القيادية الطلابية المسلمة تستر شعرها، ببساطة.
لم تحتفِ النخبة الفرنسية بدلالة انتخاب بوجيتو على أنّه إشارة "اندماج" مثلاً؛ فقد عدّته تعبيراً عن "تهديد قيم الجمهورية"، واستمرّت الحملة ضدّ الفتاة في السنوات اللاحقة، وانخرط فيها وزيران تعاقبا على حقيبة "الداخلية"، هما جيرار كولومب وجيرالد دارمانان، ونوّاب برلمان وحشد من المعلّقين، وخصّصت صحيفة "شارلي إبدو" المناهضة للمسلمين غلافها لازدراء القيادية الطلابية فصوّرتها في هيئة قِرد.
لا ينفكّ المأزق الفرنسي الحالي عن تقاليد الإحجام عن المراجعة الجادّة، كما يتّضح من تجاهُل خطايا ماضٍ لا ترغب بفتح ملفّاته. ظلّت مساءلة العهد الاستعماري "تابو" مغلّظاً، إلى درجة حرّضت البرلمان الفرنسي في 23 فبراير/شباط 2005 على سنّ قانون "تمجيد الاستعمار"، ومع تعالي الضغوط الخارجية بمراجعة الماضي الاستعماري؛ قدّمت قيادة ماكرون حجّتها بأنّ أيّ مراجعة ستقسِّم المجتمع الفرنسي.
وفي حين لا يقوى القوم على مراجعة تاريخ متصرِّم فإنّهم سيعجزون عن فحص حاضر مباشر بالأحرى؛ رغم حرائق مشتعلة من تحت الأقدام، ذلك أنّ إحجام فرنسا عن مراجعة الماضي سيُعفي ذيول الثقافة الاستعمارية الفوقية والمركزية من المساءلة، حتى وهي تضرب بأطنابها في الداخل؛ حيث يُعاد إنتاجها من خلال نهج الانغلاق دون مكوِّنات محسوبة في أصولها الإثنية على مستعمرات الأمس.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.