قدّم وزير الخارجية التركية مولود جاوش أوغلو أفضل وأدقّ تعبير عن ردّ الفعل الأمريكي على قرار منظمة "أوبك+" الأخير الخاصّ بتخفيض إنتاج النفط، واصفاً إياه بالتنمُّر على السعودية واتِّباع لغة التهديد والوعيد تجاهها، واتهامها بالوقوف خلف القرار.
هذا التنمُّر الأمريكي الذي يتجاهل مصالح وحتى استقلال وسيادة السعودية والدول الأخرى المنتجة للنفط. كان تعبيراً في أحد أبعاده عن نهاية زمن التنمُّر الأمريكي نفسه، فيما تعيش قيادتها الحالية حالة إنكار ولا تريد الاعتراف بهذه الحقيقة أو استيعابها.
القصة ببساطة ومع ارتفاع التضخم والتحذير من ركود اقتصادي عالمي خلال الفترة القادمة كان قرار "أوبك+" خفض إنتاج النفط "مرحلياً" صائباً، ولو أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار على المدى القصير، الأمر الذي لا تتضرر منه أمريكا وحدها، بخاصة مع انخفاض سعر البرميل إلى ما دون الـ80 دولاراً في الأسابيع الماضية، فيما سيرفعه القرار الجديد إلى حدود 100 دولار "بدلاً من 150 تقريباً قبل شهور"، وهو رقم يبدو عادلاً نسبيّاً قياساً إلى التوازن بين مصالح الدول المنتجة وتقلُّبات السوق والأسعار والاقتصاد بشكل عامّ.
التنمُّر الأمريكي تجاهل بقية دول المنظمة وركّز على السعودية فقط رغم أن القرار اتُّخذ جماعياً، حتى مع نفوذ وتأثير الرياض داخل المنظمة، غير أن التنمُّر بدا أسهل من قبل واشنطن تجاه دولة واحدة، لتركيز الاتهامات والتهديد والوعيد والمسؤولية عليها.
بداية وقبل كل شيء لا بد من التذكير بحقيقة مهمة جدّاً مفادها أن السعر العادل لبرميل النفط يُفترض أن يكون بحدود 250 دولاراً، كما قال رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم وفق دراسة أو حسبة بسيطة تربطه بتصاعد أسعار الذهب وبقية المنتجات الاستراتيجية خلال الخمسين عاماً الماضية.
هذا يعني أن الأسعار هي بالحقيقة أقلّ من نصف مستواها الطبيعي قياساً إلى البضائع التي تحتكرها الولايات المتحدة نفسها أو حتى تتحكم فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر أسعار السلاح والمعدات العسكرية وفى سياق الطاقة يمكن الحديث مثلاً عن تحكُّم واشنطن بالغاز الطبيعي تحديداً كونها أكبر منتج له بالعالم إذ تستحوذ على ربع السوق تقريباً، واستغلالها تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا لرفع الأسعار كما تريد، الأمر الذى اشتكى منه حتى حلفاؤها وأصدقاؤها -بالتزامن مع التنمُّر على السعودية- كما فعل مثلاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في دليل واضح على انفصام وعنجهية وجشع أمريكا، ورغبتها في احتكار ليس فقط الأسعار والاقتصاد العالمي، بل الرواية والحقيقة بشكل عامّ.
من هنا يمكن ملاحظة حضور النفاق إلى جانب التنمُّر الأمريكي، بخاصة أنه لا ينطلق فقط من المصلحة الأمريكية وإنما حتى من مصلحة إدارة الرئيس جو بايدن الحزبية الفئوية والضيقة التي تخشى ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته على أبواب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس أوائل الشهر القادم.
ومن هنا سعيها لتأخير قرار منظمة "أوبك+" لشهر فقط، أي إلى ما بعد الانتخابات، ما يعني هدم أسس خطاب التنمُّر ضدّ السعودية ضمن أسباب ومعطيات أخرى محلية ودولية.
وبالعودة إلى تصريح أو للدقة توصيف وزير الخارجية التركي للتنمُّر الأمريكي، ومحاولة واشنطن فرض إرادتها عبر ابتزاز وتهديد الرياض، لتغليب مصالحها السياسية والحزبية على المصالح القومية السعودية كما قال عن حقّ وزير الطاقة السعودي عبد العزيز بن سلمان منذ أيام، علماً أن تركيا أيضاً متضررة من ارتفاع الأسعار -لكونها دولة غير منتجة للنفط- كما قال الوزير جاوش أوغلو ولكنها تتفهم القرار وسياقه العامّ، وتعاطت معه ضمن فهم عامّ يرى أن حلّ المشكلة لا يكون بالتنمُّر والتهديد والوعيد بل بتبنِّي مقاربات مختلفة تتضمن رفع العقوبات غير المبرَّرة أصلاً ضد فنزويلا وإيران، وبالتالي ضخّ مزيد من النفط إلى الأسواق، ما يعني حكماً زيادة الإنتاج وخفض الأسعار.
هنا يجب الانتباه إلى أن العقوبات نفسها تُعتبر شكل من أشكال التنمُّر الأمريكي، بخاصة أنها تتم خارج إطار الأمم المتحدة والشرعية الدولية، إذ تستغل واشنطن قوتها ومركزيتها في الاقتصاد العالمي لفرض إرادتها وابتزاز وتهديد معارضيها.
في السياق الأوسع والأعمق لتصريح وزير الخارجية التركية، لا بد من التذكير أن الولايات المتحدة حاولت ممارسة التنمُّر تجاه تركيا نفسها المفترض أنها حليفتها، في عدة ملفات منها صفقة صواريخ S-400 الروسية لحماية أجواء البلاد، ودفاعها عن مصالحها القومية في محيطها وجوارها الجيوبوليتيكى المباشر، وآخرها وقف مشاركة تركيا في مشروع إنتاج طائرات F-35.
هنا لا بد من لفت الانتباه في ضوء التجربة التركية إلى معطيات مهمة جدّاً، تتعلق برفض التنمُّر الأمريكي مبدئيّاً ومنهجيّاً، وكيفية مواجهته والتصدي له وإفشاله بحزمة من الوسائل والآليات الناجعة والمُجدية الداخلية والخارجية.
مواجهة التنمُّر الأمريكي، وفق التجربة التركية لا تتم بالقطيعة ولا حتى خوض معركة سياسية وإعلامية مع واشنطن، بل بمواجهتها ومصارحتها بالحقيقة، كما جرى مثلاً في صفقة طائرات F-16 البديلة لطائرات F-35، التي باتت جاهزة تقريباً بعد تدخُّل البيت الأبيض لشطب الشروط المجحفة التي أضافها بعض نواب الكونغرس، وذلك بعدما أظهرت تركيا جديتها وحزمها، ووضعت بدائل جدية على جدول الأعمال ولكن مع استنفاد الجهود باتجاه أمريكا أولاً.
لا يقل أهمية عمَّا سبق ضرورة حفاظ ودفاع الدول عن مصالحها وسيادتها وقرارها الوطني المستقلّ. هنا وفي السياق النفطي مثلاً تبدو مهمةً الإشارةُ إلى دراسة، أشارت إلى أن بقاء سقف الإنتاج السابق المعروض بالسوق في ظلّ الركود الحالي كان سيودي بأسعار النفط إلى ما دون 50 دولاراً للبرميل، بما يعني تردِّي وحتى انهيار ميزانيات عديد من الدول المنتجة.
إضافة إلى ما سبق ضرورة تبنِّى سياسات واستراتيجية داخلية صحيحة ومُجدية للاستفادة القصوى من مصادر الثروات الوطنية خارج إطار التبعية السياسية والاقتصادية للخارج.
توجد حاجة كذلك إلى تعاون دولي جماعي بين الدول والمنظمات بما فيها أوبك وحتى الأمم المتحدة، علماً أن قصة النفط وانتهاج التنمُّر والتهديد بسَنّ قوانين وفرض عقوبات أمريكية حتى ضد أوبك نفسها بتهمة الاحتكار تذكّرنا مرة أخرى بضرورة إصلاح الأمم المتحدة وجعلها الساحة المناسبة لحلّ الأزمات والخلافات السياسية والاقتصادية أيضاً بشكل أكثر عدلاً وتوازناً.
رغم التحفُّظ ورفض الغزو الروسي لأوكرانيا فإن التنمُّر الأمريكي المتَّبَع حاليّاً لن يحلّ الأزمة بالتأكيد مع سعى واشنطن لفرض رؤاها الخاصة على المجتمع الدولي، وفي المقابل ضرورة اقتناعها بأهمية الحلّ السياسي والدبلوماسي، وهو ما يراه صائباً نوابٌ ومشرعون أمريكيون كثر، حتى من حزب الرئيس جو بايدن نفسه.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.