شكّلت زيارة كيسنجر للصين قبل أيام معدودة مادة ثريّة لكثير من المتفائلين للتبشير بنوع من الانفراج في العلاقة بين بكّين وواشنطن بناءً على تاريخ الرجل مع الصين الذي يمتد إلى ما يقرب من نصف قرن وتحديداً منذ عام 1971.
ولكن يبدو من الصعب جداً رسم أيّ خطوط مشتركة بين زيارة كيسنجر السريّة للصين مطلع سبعينيات القرن العشرين، وبين زيارته الحالية، والسبب بسيط جداً، يتعلق تحديداً بطبيعة العلاقة بين القوّتين الكبيرتين التي أُعيد تعريفها طيلة هذه الفترة.
فعلى مدى هذه العقود الطويلة تحولت العلاقة بين الصين والولايات المتحدة من حالة الشراكة إلى حالة التنافس، وربما نكون قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الأطوار الأولى لتحوّل آخر يتجه بهذه العلاقة إلى المواجهة، فقضايا التسخين بين البلدين في الكثير من القضايا خصوصاً مسألة تايوان تحدث على قدم وساق.
ومع مجيء إدارة الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، لم تكن هناك مؤشرات على أنّ صفة التنافس التي أخذت طابعها الخشن بين البلدين إبان فترة ولاية الرئيس ترمب في وارد التراجع.
وعلى العكس، أصبح التنافس يترسّخ أكثر، فقد اختارت إدارة بايدن التصديق على قانون سمّي "CHIPS and Science Act" والذي يُعدّ في جوهره إعلان حرب على القطاع التكنولوجي الصيني، وأنشأت تحالف "Quad" للحد من حريّة الصين في منطقة جنوب شرق آسيا، وأخيراً وليس آخراً، إطلاق إطار العمل الاقتصادي بين الهند والمحيط الهادئ لتشديد الخناق الاقتصادي على بكّين.
المطّلع على تفاصيل السياسة في واشنطن سيرى أنّ القضية الوحيدة التي يُجمع عليها الحزبان ربّما تكون مواجهة الصين والحدّ من صعودها وتهديدها مكانة الولايات المتحدة العالمية، وربّما يكون أول لقاء رفيع المستوى بين المسؤولين الصينيين ونظرائهم الأمريكيين في أنكوراج-ألاسكا في مارس/آذار 2021 مؤشّراً على هذا الإجماع الداخلي.
فقد ساد الاجتماع التوتّر بشكل ملحوظ، وبعد انتقادات متبادلة أمام كاميرات وسائل الإعلام، خرج وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ليحذّر الصين من أنّ أفعالها ستؤدّي إلى عالم "أكثر عنفاً".
ونعود إلى كيسنجر، وتحديداً إبان زيارته الأولى السرّية للصين مطلع سبعينيات القرن العشرين حيث كان العالم مختلفاً، فالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانت في أوجها، وكان العالم قد اقترب فعلاً من حافّة "الهاوية" باشتعال حرب نووية بين واشنطن وموسكو في أثناء ما عُرفت بـ"أزمة صواريخ كوبا".
ولذلك فمع مجيء إدارة الرئيس نيكسون إلى البيت الأبيض، وهي الإدارة التي خدم فيها كيسنجر كمستشار للأمن القومي ولاحقاً كوزير للخارجية، تشكّلت مقاربة جديدة للتعاطي مع الحرب الباردة، قوامها إحداث شرخ في المعسكر الشيوعي كتمهيد لإحداث انفراجة في العلاقة مع موسكو لاحقاً عبر سلسلة من التفاهمات أساسها رسم حدود المصالح وتهدئة سباق التسلّح خصوصاً في مجال الأسلحة النووية والصواريخ الباليستيّة عابرة القارات، هذا من ناحية، من ناحية أخرى كانت أولوية إدارة الرئيس نيكسون وضع حدّ للحرب الفيتنامية التي أرهقت الولايات المتحدة وأضرّت بصورتها؛ فبعد أكثر من عقدين على اشتعالها، كانت الحرب في فيتنام، ومن خلال الخسائر الكبيرة التي تتكبدها القوات الأمريكية، بالإضافة إلى حجم الفظائع المرتكَبة هناك، عامل تشتيت وتوتّر للسياسة الأمريكية في استراتيجيتها الكبرى المتمثلة في التصدي للتمدد الشيوعي في العالم. فبدلاً من أن تكون الحرب في فيتنام حلقة في سياسة التصدي للتمدد الشيوعي، أصبحت على العكس من ذلك، عامل جذب لهذا التمدد في بقاع أخرى في العالم خصوصاً في أمريكا الجنوبية.
وكان عرّاب هذه المقاربة الجديدة هو كيسنجر نفسه؛ فمن خلال اطّلاعه الواسع على تاريخ الدبلوماسيّة، ومعرفته المفصّلة بدهاليز السياسة في أروقة عواصم الدول العظمى، كان على يقين بأنّ إحداث نوع من الانفراج في العلاقة مع موسكو لا بدّ أن يمر حتماً عبر بكين، وكانت عليه استمالة الصين إلى الولايات المتحدة وإبعادها عن موسكو لإضعاف المعسكر الشيوعي.
لقد كان لدى كيسنجر قناعة بأنّ هزيمة الشيوعية لن تتحقق من غير إحداث شرخ بين القوّتين الشيوعيتين الكبيرتين: الصين الشعبية، والاتحاد السوفييتي.
وكانت زيارة كيسنجر (المشار إليها) في السرّ تمهيداً لزيارة رسمية للرئيس نيكسون وكبار مسؤولي إدارته للصين، التي تمّت في شهر فبراير/شباط من عام 1972 وهي الزيارة الأولى لرئيس أمريكي للصين بعد الثورة وتسلم الحزب الشيوعي فيها مقاليد الحكم.
وعلى أثر الزيارة، اعترفت الولايات المتحدة بالحزب الشيوعي ممثّلاً رسميّاً للصين، ومنحت بكين مقعدها الدائم في مجلس الأمن بعد أن كانت تشغله تايوان، وبذلك أطلق نيكسون-كيسنجر المسار للتقارب مع الصين الذي استمرّ إلى ما يقرب من ثلاثة عقود، شكّل دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 ذروته.
وعلى مدار العقدين اللاحقين، تحولت الصين إلى مصافّ الدول الكبرى ليس بحجمها فقط واتّساع أراضيها، بل باقتصادها وقدراتها العسكرية، وحجم نفوذها، وأصبحت الصين مصنع العالم بلا منازع، وتحولت لتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، ويشير الكثير من التقارير إلى أنّ الصين ستكون الاقتصاد الأول عالميّاً بحلول عام 2050.
إنّ انهيار الاتحاد السوفييتي، والصعود الصاروخي للصين، وضع بكين وجهاً لوجه مع الولايات المتحدة، ومع فشل المقاربة الليبرالية في تحويل الصين عبر فرضيّة الاقتصاد الحر إلى الديمقراطية، برزت الصين في السياسة الأمريكية كتهديد وجودي لمكانتها العالمية.
لا يبدو أنّ زيارة كيسنجر مؤخراً للصين في وارد أن تعكس اتّجاه العلاقة مع بكّين من المنافسة إلى التقارب من جديد، فإنّ منطق هذه العلاقة بنيويّ في الأساس وقائم على فلسفة أنّ الدولة الصاعدة (الصين هنا) تشكّل مصدر تهديد للدولة المهيمنة (الولايات المتحدة).
وتتضمن فلسفة هذه العلاقة أن تكبح الدولة المهيمنة بكل ما أوتيت من قدرات تقدم الدولة الصاعدة، حتى ولو كلّفها ذلك الدخول في حرب مباشرة معها.
سبق زيارة كيسنجر إلى الصين الكثير من الزيارات التي قام بها مسؤولون أمريكيون رفيعو المستوى لبكين منهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزيرة الخزانة جانيت يلين، والمبعوث الرئاسي الخاص للمناخ جون كيري، ولم تسفر هذه الزيارات عن أي نتائج ملموسة.
في السياق ذاته فإنّ زيارة كيسنجر وعلى الرغم من أنّها كانت أكثر حفاوة ودفئاً من طرف الصينيين فإنّها لن تسفر (غالباً) عن تغير كبير في مسار العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، وربّما يكون الدفء الذي حظي به كيسنجر من باب النكاية بالرئيس بايدن وطاقم إدارته؛ فقد حضر اللقاء مع كيسنجر وزير الدفاع الصيني، في حين لم يحضر لقاءً جمع قادة عسكريين من الصين مع نظرائهم الأمريكيين من بينهم وزير الدفاع لويد أوستن.
لقد أظهر الصينيون أنّ كيسنجر صديق لهم، ولكن في نهاية المطاف فإنّ كيسنجر ليس هو الولايات المتحدة، هذا ما أكّدته وزارة الخارجية الأمريكية عندما عدّت زيارته للصين ذات طابع شخصيّ وليس رسميّاً.
وعلى الرغم من أهميّة الدبلوماسية غير الرسميّة في إحداث اختراقات جوهريّة في مسار العلاقات بين الدول (اتفاق أوسلو نموذجاً) فإنّ المؤشّرات الحاليّة بين الصين والولايات المتحدة لا تدل على أي انفراج قريب في العلاقة بينهما، وهو ما يعني أنّ التنافس سوف يبقى سيّد الموقف.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.