وبالعودة إلى ذلك يجدر التنويه بأن المسار السياسي الذي تُوصل إليه أخيراً في ليبيا مثل نهاية حصيلة عمل تركز أساساً في محاولة تفتيت المشكل الليبي إلى مجموعة من المشكلات التي تناقش كل على حدة وفق مسار خاص، على النحو التالي:
أولا: المشكل الأمني والعسكري الذي مثلت لجنة 5+5 (المكونة من خمسة ضباط عن كل طرف) الأساس في حله.
ثانيا: الانقسام الاقتصادي والسياسي الذي حاولت لجنة الخبراء (18 عضواً) التقدم في خطوات عملية للتعاطي معه.
ثالثا: المسار السياسي الذي جرى مؤخراً بإشراف الأمم المتحدة بإدلاء ممثلي الحوار الليبي البالغ عددهم 75 بأصواتهم. وقد تمخضت عن هذه الانتخابات سلطة تنفيذية مؤقتة بمهام واضحة.
وقد انتخب محمد المنفي (الذي تعود أصوله إلى المنطقة الشرقية وسفير ليبيا السابق لدى اليونان رئيساً)، وموسى الكوني (ينحدر من فزان وهو عضو مستقيل من المجلس الرئاسي السابق) وعبد الله اللافي (عضو مجلس النواب وأصيل مدينة الزاوية ممثلاً عن المنطقة الغربية) أعضاء في المجلس الرئاسي الذي تتلخص صلاحياته بمهام القائد الأعلى للجيش واعتماد السلك الدبلوماسي الأجنبي بليبيا وتعيين ممثلي ليبيا بالخارج وإبداء الرأي في اختيار وزيرَي الدفاع والخارجية وأخيراً الإشراف على مسار المصالحة الوطنية.
أما فيما يتعلق بحكومة الوحدة الوطنية فقد آلت فيها المنافسة إلى انتخاب عبد الحميد الدبيبة، وهو رجل أعمال من مصراتة لم يعرف عنه عداء واضح لحكومة السراج. وتلخصت مهامه في تنفيذ كل الإجراءات المطلوبة لإنجاح خارطة الطريق للوصول إلى انتخابات أُقر موعدها في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021 ووضع برنامج عمل الحكومة للفترة المتبقية وتوفير الخدمات الأساسية والاستعجالية.
من المهم التذكير بأن حكومة الوحدة الوطنية مطالبة بتقديم تشكيلة تراعى فيها التوازنات بليبيا مع حضور قوي وفاعل للمرأة والشباب كما نصت عليه الاتفاقات السابقة لكل المترشحين مع البعثة الأممية للدعم في ليبيا، وكما بشر به رئيس الحكومة المنتخب عبد الحميد الدبيبة.
يبقى التساؤل حول قدرة الحكومة على الوجود القانوني فضلاً عن الفعل، مبحثاً مشروعاً، بخاصة أن تزكية الحكومة يتعين أولاً أن تمر بأغلبية أعضاء مجلس النواب (120 صوتاً)، وهو أمر لم يتضح بعد كيف يتجاوزه المجلس الذي يجتمع جزء منه بطرابلس برئاسة حمودة سيالة وجزء آخر في شرق البلاد بمدينة البيضاء برئاسة عقيلة صالح.
تكشف للتصريحات التي صدرت من جميع المنتخبين (عقيلة صالح وفتحي باشاغا والشرف الوفي إلخ..) سواء منهم من فاز ومن لم يحظَ بثقة لجنة الحوار، أنهم اتفقوا على قبول النتائج وتهنئة الفائزين والتعبير عن الاستعداد للعمل الجماعي لتجاوز المختنقات. وهذا الترحيب سيكون إيجابياً على مناخ العملية السياسية.
لا شك أن التقارير الرسمية الصادرة عن السلطات الليبية طوال العقد الفارط التي تحدثت بشكل واضح عن الدمار الذي شهدته الدولة الليبية ومؤسساتها، لا من جهة الانقسام والتشظي فحسب بل ومن جهة غياب المسؤولية وانتشار الفساد، تزيد من صعوبة مهمة حكومة الوحدة الوطنية.
زد على ذلك وجود السلاح ميدانياً والأنباء المتداولة عن تحشيدات عسكرية ضخمة بخط سرت-الجفرة، وسط تقارير أممية حول تواصل توافد العتاد العسكري والأفراد على ليبيا، فيما ينذر بإمكانية نشوب حرب قد تكون قريبة وفق ملاحظين.
لا تقف مشاكل الحكومة الليبية المرتقبة على ما ذكرنا، بل يجب أن لا ننسى أن جائحة كورونا التي تشهدها ليبيا وحالة التردي والهشاشة التي تعرفها المرافق الصحة، والانقسام المؤسساتي وملفات الفساد التي جرت إثارتها مؤخراً فيما يتعلق بالقطاع الصحي تزيد من تعقيد الوضعية المركبة أصلاً.
لا شك أن خارطة الطريق التي يتعين على حكومة الوحدة الوطنية اتباعها وتحقيق أهدافها وفق المبادئ الحاكمة لها يمكن أن توفر حلولاً ذات بال، بخاصة إذا ما جرى احترام التعهدات الزمنية المتفق عليها وصلاحيات كل طرف طوال المدة، مع مراعاة الأولويات التنفيذية المتفق عليها.
إذ إن المرحلة الانتقالية التنفيذية تهدف أساساً إلى تعزيز الشرعية السياسية عبر الخلوص إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري، بما يوفر الشروط اللازمة والظروف الملائمة لإجراء الانتخابات بغرض معالجة مسألة الوجود الأجنبي وتوحيد السيادة على كامل التراب الليبي عن طريق بسط الأمن، وهو ما يمر حتما عبر توحيد مؤسسات الدولة وقراراتها السيادية بما يمس بشكل مباشر معيشة المواطن بخاصة في الجوانب الخدمية من دون إهمال مسألة المصالحة الوطنية التي يتعين أن تطلَق بشكل شامل وفق مقتضيات العدالة الانتقالية.
أما فيما يتعلق بالخلاف حول المدة الزمنية التي يتعين أن تنجز فيها حكومة الوحدة الوطنية مهامها فقد حدد الاتفاق السياسي المدة الزمنية المخصصة للمرحلة التمهيدية للحل الشامل ابتداء من انتهاء حوارات تونس في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، على أن تنتهي المرحلة التمهيدية خلال 18 شهراً من دون أن يشمل ذلك العملية الانتخابية التي حُدد تاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول كأجل متفق عليه لها.
السؤال الذي تتعين إجابته الآن: هل ستتمكن السلطة التنفيذية من احترام هذه الآجال؟ وما ضمانات توافق حكومة الوحدة الوطنية بأداء مهامها؟ وكيف تعالج الإخلالات التي قد تطرأ على سير العملية السياسية؟
نظمت خارطة الطريق التي اعتمدت بمؤتمر الحوار السياسي في تونس بنوفمبر/تشرين الثاني 2020 هذه النقطة بإلزام المؤسسات المعنية أمام لجنة مُشكَّلة من ملتقى الحوار السياسي، سواء فيما يتعلق بإنجاز المهام المنوطة بعهدتها وبالوفاء بالالتزامات التي تعهدت بها وحتى في حالة الخروج عن الإجماع الذي تحقق في المحطات السابقة (بوزنيقة وبرلين وتونس وجينيف).
لكن يبقى الوفاء بما اتُّفق عليه عبر لجنة الحوار السياسي فقط أمراً غير مطمئن، إلا إذا نظرنا بنفس الوقت إلى ما يحدث خارج ليبيا وبجوارها. فالمتابعة الدقيقة لما حدث ويحدث في ليبيا ليس بعد 2011 فحسب بل على مدى تاريخها الراهن تكشف أن العامل الخارجي كان مؤثراً بل حاسماً في الأمر.
فليس من الصدفة أن الغطاء قد رُفع عن الهجوم على طرابلس بالتزامن مع صعود إدارة بايدن الذي لا يمكن اعتباره حدثاً عادياً، زد على ذلك الوجود التركي المرتبط أيضاً بما يحدث في شرق المتوسط وحالة الارتخاء في جسد الاتحاد الأوروبي والتخبط بقراراته.
يبقى الأمل معقوداً على حل سياسي يُنهي النزاع الليبي الذي ظهر بعد سنوات عدة وخسائر جسيمة عدم إمكان حسمه بالسلاح، وهي قناعة لم يعد يشعر بها الليبيون فحسب بل إن جانباً كبيراً من داعميهم أصبحوا على يقين من ذلك.
فهل سيثني ذلك الجميع عن حرب حرمت المنطقة لا من الاستقرار الذي هي في أمس الحاجة إليه فحسب بل ساهمت في مآسٍ ستحتاج إلى زمن حتى يتجاوزها الليبيون؟
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.