تابعنا
إنّ فكرة التجديد تبدو أبعد من مجرد الاضطرار إليها بسبب الاستحقاقات الانتخابية، بل يمكن القول إنّ الرئيس أردوغان حرص على ذلك لتأكيد معنى التجاوب مع رسائل الصندوق وتطلّعات الناخبين.

بعد تأديته اليمين الدستورية وإتمام مراسم تنصيبه رئيساً لولاية جديدة تمتدّ لخمس سنوات، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حكومته الجديدة.

وكان الأمر الأكثر لفتاً للأنظار هو نسبة التجديد المرتفعة جداً فيها، إذ تغيّر خمسة عشر وزيراً من أصل سبعة عشر في الحكومة، إضافة إلى نائب الرئيس إذ حلّ الوزير الأسبق والقيادي في حزب العدالة والتنمية جودت يلماز مكان فؤاد أوقطاي.

كانت فكرة التجديد في الحكومة متوقعة منذ إعلان قوائم حزب العدالة والتنمية للانتخابات البرلمانية، إذ تضمنت قوائم مرشحي الحزب للبرلمان 15 من أصل 17 وزيراً مع نائب الرئيس.

ولأنّ الدستور يحظر الجمع بين منصب الوزير والمقعد البرلماني، ما يعني استقالة النائب الذي يكلَّف منصباً وزارياً، فلم يكن متوقعاً أن يعيد أردوغان اختيار معظم الوزراء السابقين للحكومة.

رغم ذلك، ولأنّ تحالف الشعب حصل على أغلبية مقاعد البرلمان، فكان من الممكن نظرياً اختيار وزير أو أكثر من النوّاب لحقيبة وزارية جديدة، لكنّ تركيبة البرلمان من جهة وحرص العدالة والتنمية على أفضل الفرص بخصوص رئاسة لجان البرلمان، جعلا التوسع في ذلك مستبعداً.

وتوقّع مراقبون أن يطلب الرئيس أردوغان من شخصين أو ثلاثة، على أقصى حدّ، من الوزراء السابقين الاستقالة من البرلمان للعودة إلى الحكومة، لا سيّما من الوزارات السيادية، لكنّ ذلك لم يحدث.

ولذلك نقول إنّ فكرة التجديد تبدو أبعد من مجرد الاضطرار إليها بسبب الاستحقاقات الانتخابية، بل يمكن القول إنّ الرئيس أردوغان حرص على ذلك لتأكيد معنى التجاوب مع رسائل الصندوق وتطلّعات الناخبين.

فلم تضمّ الحكومة قيادات بارزة في الحزب على غرار الحكومة الماضية، باستثناء نائب الرئيس، وإنّما قدّمت للرأي العام وزراءً جدداً من التكنوقراط والمسؤولين القادمين من داخل وزاراتهم، مثل وزراء الزراعة والغابات، والصناعة والتكنولوجيا، والطاقة والمصادر الطبيعية، والمواصلات والبنية التحتية، والداخلية والتعليم.

إذن، تغيرت الحكومة بالكامل باستثناء وزير الصحة فخر الدين قوجة ووزير الثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي، لكنّ الوزراء الـ15 الجُدد لم يكونوا مغمورين بطبيعة الحال، بل كانوا شخصيات معروفة وموثوقة وذوي مسيرة عملية ناجحة ومقنِعة في العموم.

وأشاع إعلان التشكيلة الحكومية الجديدة جواً من الإيجابية والتفاؤل، وكان من اللافت أنّ عديداً من الإعلاميين المعارضين أشادوا بالتشكيلة وعدُّوها من أفضل الحكومات التي شكلها أردوغان، ورأى بعضهم أنّها من طراز حكومات العدالة والتنمية الأولى ذات الإنجازات الكبيرة.

بيد أنّ فكرة التجديد في الحكومة ليست محصورة بالأسماء، فالوزارة الأهم، الخزينة والمالية، تبدو متجهة نحوَ تغيير في سياساتها مع الوزير القديم-الجديد محمد شيمشك، إذ قال في تصريحه الأول خلال مراسم تسلّم الوزارة، إنّ تركيا بحاجة لـ"سياسات اقتصادية عقلانية"، ما أوحى بنهج اقتصادي جديد مختلف عن الذي ساد حتى الآن، لا سيّما فيما يتعلق بسعر الفائدة وأدوات محاربة التضخم.

غالب الظن ألّا يحدث تغيير كبير ومفاجئ في السياسة المالية تجنباً لأي هزات محتملة نتيجةً لذلك، ما يرجّح فرص سيناريوهات مثل الفترة الانتقالية والتغير المتدرج وانتظار ما بعد الانتخابات المحلية في مارس/آذار المقبل.

لكن بكل الأحوال من الملاحظ أن اختيار شيمشك للوزارة في الحكومة الجديدة أثار جواً من الارتياح لا سيّما وأنه يحظى بثقة ومصداقية عاليتَين في الداخل والخارج.

كذلك شهدت وزارة الخارجية تغيراً كبيراً وإن كان متوقعاً، فقد وقع اختيار الرئيس أردوغان على رئيس جهاز الاستخبارات الرجل القوي و"كاتم أسرار تركيا" والذراع اليمنى للرئيس أردوغان، هاكان فيدان.

كان اسم فيدان متداولاً لوزارة الخارجية منذ مدّة ليست بالقصيرة، فهو مطلّع وملمٌّ من الناحية النظرية، إذ كانت رسالته في الماجستير عن "دور الاستخبارات في السياسة الخارجية".

كما كان فيدان ولسنوات جزءاً من صناع قرار السياسة الخارجية وأحد منفذّيها في الواقع، إذ شارك مع وزيرَي الخارجية والدفاع في متابعة مختلف الملفات الساخنة، وبدأ مسار تقارب تركيا مع عدد من القوى الإقليمية، كما أشرف بشكل مباشر على بعض الملفات مثل ليبيا.

إن اختيار شخصية مثل فيدان للسياسة الخارجية لا يأتي من فراغ، بل يصبّ في فكرة "مئوية تركيا" التي أعلن أردوغان أنها بدأت مع إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، ولذلك سيكون من المهم متابعة البصمات التي سيتركها رجل الاستخبارات المخضرم وهو على رأس دبلوماسية بلاده خلال السنوات المقبلة.

من ناحية أخرى، شهدت وزارة الدفاع اختيار رئيس أركان الجيش يشار غولر وزيراً للدفاع خلفاً لخلوصي أكار، الذي اختير وزيراً حين كان رئيساً للأركان كذلك. وعليه، فإنّ هذا التغيير يحمل بين طياته من زاوية ما، فكرة ترسيخ تقليد جديد، يتمثل في اختيار رئيس الأركان لوزارة الدفاع، بعد أن شغلها مدنيون لسنوات طويلة. ومن البديهي أنّ تقليداً من هذا النوع لو ترسّخ واستمرّ سيكون في صالح ديناميات مستقرة في العلاقات المدنية- العسكرية في البلاد.

وأخيراً، فإنّ نسبة التغيير الكبيرة جداً في الحكومة الجديدة تفتح مساحات للمناورة والتغيير والتطوير، خصوصاً أنّ الوزراء في معظمهم جُدد ولكنهم على كفاءة عالية مشهود لهم بها في تخصصاتهم المختلفة، إضافة إلى أنّ تركيبة الحكومة الجديدة ترجّح ارتفاع منسوب تفويض الرئيس للمسؤولين في إدارة ملفاتهم وتراجع الإدارة المركزية نسبياً في الفترة المقبلة.

ولذلك سيكون أداء الحكومة الجديدة تحت المجهر وعنصراً مهماً في استشراف الحالة السياسية في البلاد، إذ إن تحديات المرحلة المقبلة كثيرة واستحقاقاتها كذلك وفي مقدمتها الانتخابات المحلية بعد أقل من عشرة أشهر.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً