على هامش زيارته الترويجية لفيلم "أوبنهايمر"، قال كرييستوفر نولان، مخرج الفيلم ومنتجه، "إنّنا نعيش في عالم أوبنهايمر شئنا أم أبينا، إنها لحظة تاريخية يجب أن تخلَّد بعمل كبير"، ولا شك أنّ فيلم أوبنهايمر من حيث الإنتاج والإخراج يعد عملاً من أعمال نولان الكبيرة، والتي وضعت لها بصمة لا جدال عليها في عالم السينما.
ولا شك أنّ اللحظة التاريخية التي يحكي عنها الفيلم تعد حدثاً فاصلاً في التاريخ يؤرخ لها، فالعالم قبل القنبلة النووية شيء، وبعدها شيء آخر تماماً.
لكن لماذا الآن؟ هل نحتاج إلى إنتاج سينمائي ضخم، وجولات ترويجية كبيرة من أجل تذكيرنا بأنّنا مازلنا نعيش تحت تهديد الفناء النووي؟
الحرب الباردة-الساخنة
يأتي الفيلم في لحظة مفصلية يعيشها العالم، لحظة حرجة تتزايد فيها مخاطر استخدام الأسلحة النووية في ظل بيئة دولية غير مستقرة، تشهد عديداً من الحروب مختلفة المستويات، من الحرب الطاحنة بين روسيا وأوكرانيا إلى الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، كما أنّها حرجة فيما يتعلق بالتطورات التكنولوجية، إذ يقلِق الذكاء الصناعي عديداً من القطاعات ويضع ملايين البشر تحت خطر فقدان وظائفهم ونمط حياتهم المعتاد.
ومنذ أزمة صواريخ كوبا بداية ستينيات القرن العشرين، والتي كانت القوتان النوويتان الوحيدتان آنذاك الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى من الدخول في حرب نووية عالمية بسببها، لم يقترب العالم من خطر استخدام السلاح النووي كما هو في هذه الأيام، وذلك إثر الحرب الباردة-الساخنة المشتعلة بين الغرب من جهة وروسيا من جهة على الأراضي الأوكرانية.
لقد كان التهديد باستخدام السلاح النووي حاضراً منذ الأيام الأولى لاشتعال الحرب في فبراير/شباط 2022، فالرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف صرح في عديد من المناسبات بأنّ روسيا سوف تلجأ إلى استخدام السلاح النووي في حال تعرضت القوات الروسية لهزيمة في أوكرانيا، أو إذا نجحت أوكرانيا -بمساعدة الناتو- في هجومها المضاد لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها موسكو.
وقامت روسيا بنقل العديد من أسلحتها النووية التكتيكية إلى روسيا البيضاء على الحدود مع أوكرانيا، وقد أكسبت هذه الخطوة الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الثقة لتهديد الغرب بأنّه لن يتردد باستخدام هذه الأسلحة في حال جرى العدوان على أراضيه من جهة أوكرانيا.
ورغم أنّ هذه مجرد تهديدات لفظية، إلا أنّ سهولة استخدام مثل هذه التهديدات النووية يشكل في حدّ ذاته أمراً مقلقلاً، إذ إنّ كسر التابوهات النووية حتى اللفظية منها والمتعلقة بالخطاب، شيء يبعث على القلق، لا سيّما مع فشل النظام العالمي في وضع إجراءات ردعية زاجرة لمنع تمدّد وانتشار الأسلحة النووية.
وبعد أن كانت هناك قوة نووية واحدة إبان الحرب العالمية الثانية، وقوتان إبان الحرب الباردة، أصبح العالم اليوم يعيش عصراً فيه تسع قوى نووية، هي الولايات المتحدة، روسيا، الصين، المملكة المتحدة، فرنسا، الهند، باكستان، إسرائيل وكوريا الشمالية، حيث يملكون نحو 13 ألف قنبلة نووية.
مخاطر عديدة
لقد أثبتت لنا التجارب مع عديد من التكنولوجيات أنّ الخطر لا يكمن في التكنولوجيا بحد ذاتها بل بطريقة استخدامها، والسياق الذي قد يخرجها عن السبب الأصلي الذي اكتشفت أو صُنعت من أجله.
لقد عمل أوبنهايمر ومجموعة من علماء الفيزياء، منهم إنريكو فيرمي، وريتشارد فاينمان، وجيمس بي كونانت، وغيرهم، معاً لإنشاء القنبلة من أجل استخدامها ضدّ النازيين، لكنّها سقطت في نهاية المطاف على اليابان، فضلاّ عن أنّ الهدف الأساسي للتكنولوجيا الذرية كان محاولة خلق مصدر طاقة مستدام، فإذا بها تتحول إلى آلة قتل شاملة.
طوال الفيلم، يبدأ العلماء في الشك فيما إذا كان ينبغي عليهم الاستمرار في بناء القنبلة بعد هزيمة النازيين، أما فيما يخص أوبنهايمر فإنّه، من بينهم جميعاً، قد دافع عن فكرة استمرار المشروع قائلاً: "لن يخشوا القنبلة حتى يفهموها، ولن يفهموها إلا بعد استخدامها". لقد فهمها العالم بالطريقة الصعبة، فماذا بعد؟
يأتي فيلم أوبنهايمر ليخبرنا بأنّ "النوايا الحسنة لا يمكن المراهنة عليها، وأنّ التكنولوجيا إذا ما انحرفت عن مسارها فسوف تسبّب كثيراً من المآسي".
لقد جاء على لسان أوبنهايمر في الفيلم أنّ "العالم اليوم مقبل على العيش بسلام لم يشهده من قبل"، ربّما يكون هذا الكلام صحيحاً من الناحية النظرية، ولكن عملياً فإنّ التجربة تثبت أنّ هذا السلام كان الأكثر تكلفة في التاريخ.
على صعيد آخر، ترافقت لحظة فيلم أوبنهايمر مع الضجيج المصاحب لتكنولوجيا الذكاء الصناعي، وهي التكنولوجيا التي تُثير كثيراً من الفزع حول العالم وترسم لنفسها مساراً مفصلياً.
لقد كانت القنبلة الذرية مشروعاً بحثياً قبل أن تتحول إلى مشروع عسكري، بعيداً في الصحراء، وذلك من أجل التخلص من الاعتبارات الأخلاقية، فلا يمكن أن تغامر مؤسسة بحثية مدنية كالجامعة في صنع تكنولوجيا تهدّد حياة البشر على الكوكب بهذا الشكل.
مرحلة حرجة
واليوم يحدث الأمر ذاته مع تكنولوجيا الذكاء الصناعي، فهي تجري على مستوى لا يفهمه أحد حتى أهل الاختصاص وكأنّها في معزل عن البشر، لكنّها تؤثر في حياة الملايين من البشر. وعلى عكس القنبلة الذرية التي اقتصر تطويرها وصناعتها وحيازتها على الدول، فإنّ تكنولوجيا الذكاء الصناعي منتشرة على طول الحدود بين قطاعي الحكومة والخاص وبين القطاع الرسمي والمدني، الأمر الذي قد يجعل من تأثير الذكاء الصناعي على حياة البشر لا يقل عن تأثير القنبلة الذرية.
في البداية كان هناك نوع من الترحيب والتصفيق لظهور الذكاء الصناعي التوليدي مثل (ChatGPT)، لكنّ شهر العسل هذا لم يدم طويلاً، فسرعان ما بدأ يسري الخوف بين عديد من الأوساط؛ بسبب التداعيات الشاملة التي قد يسببها الذكاء الصناعي خصوصاً على صعيد الوظائف، والمعلومات المتحيزة، والتضليل الإعلامي.
إذن، يأتي فيلم أوبنهايمر في اللحظة الحرجة، وهي اللحظة التي يعاني فيها العالم حالة مزمنة من انعدام اليقين، فالتغير المناخي يضرب في كل مكان، والتحولات الناجمة عنه أكبر بكثير من طاقة الإنسان على التصدي لها بشكل حاسم، كما تشتعل الحروب في عديد من الأماكن، ولأول مرة تنخرط دولة أوروبية كبرى في حرب فيما بينها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
كما أنّنا نعيش لحظة غياب التوافق الدولي، وعجز المجتمع الدولي عن التصدّي لعديد من الظواهر كالهجرة والقرصنة وارتفاع مستوى الكراهية، إذن إنّها لحظة حرجة لا تقدم فيها التكنولوجيا أجوبة وحلولاً، بل تثير زوابع من الشك وانعدام اليقين.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.