تابعنا
استقالة "ماي" انعكاس للتأزيم البريطاني الداخلي الذي سيبقى درساً للسياسيين وللشعوب أيضاً، فمسار الانفصال لن يكون نزهة لأي بلد آخر يفكِّر في تكرار المحاولة، وهو خيار انتحاري محتمَل لأحزاب الحكم كما جرى مع المحافظين الذين أفَلَت شمسهم.

صارت رئيسة الوزراء الثانية في تاريخ بريطانيا هي ثاني ضحايا "البريكست" من رؤساء الحكومة بعد أن دفعت من مستقبلها السياسي ضريبة الفكاك من الاتحاد الأوروبي. تُفارِق تيريزا ماي مكتبها في "دواننغ ستريت"، بعد أن أشرفت على مدار سنوات ثلاث تقريباً على محاولة حلّ الأحجية المعقدة التي فرضها التصويت الشعبي المتهوِّر على الخروج من أوروبا الموحدة في مطلع صيف 2016 دون إرفاقه بخريطة طريق الانفصال.

حسم فارق ضئيل للغاية يومها الاستفتاء الشعبي لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وكان اللجوء إلى أسلوب الديمقراطية المباشرة بسؤال المواطنين مباشرة عن خيار الخروج دون توضيح كيفيته، تعبيراً عن مأزق طبقة سياسية رضخت لإغراء الشعبوية والتسخين الجماهيري، بالتزامن مع صعود وجوه محفِّزة على التهوّر، مثل دونالد ترمب على الجانب الآخر للأطلسي، وبالتلازم مع اتساع خيارات تأجيج مشاعر الجماهير عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

لكنّ الذين قادوا الحالة مثل الوزير السابق بوريس جونسون والسياسي الشعبوي نايجل فاراج وكذلك الذين مكّنوا لنزعة الانفصال في القرار السياسي في قيادة الحكومة وحزب المحافظين وقتها، تركوا رئيسة الوزراء تصعد إلى قمة البركان بعد استقالة ديفيد كاميرون لتكابد هذه الستينية وحدها في تطبيق "البريكست" على مدار السنوات الماضية بلا جدوى.

أسفرت الطبقة السياسية البريطانية عن أزمتها باستسهال الذهاب إلى استفتاء عامّ على وجهة استراتيجية مفصلية تحت تأثير حملات مضلِّلة تلاعبت باختيارات الناخبين، ثم تعمّقت الأزمة على مرأىً من أوروبا والعالم لدى محاولة تطبيق مقتضيات الانفصال الذي أقرّه الاستفتاء بأغلبية لم تتجاوز 52 في المئة.

كان ديفيد كاميرون عملياً أول ضحايا "البريكست" في رئاسة الحكومة، عندما اضطُرّ إلى الاستقالة من منصبه مباشرةً، فصعدت مَن بدت في هيئة مارغريت تاتشر الجديدة إلى إدارة المرحلة العصيبة مُبْدية الصبر والعناد.

خاضت تيريزا ماي جولاتها التفاوضية الشاقّة على شَتَّى الجبهات، مع الاتحاد الأوروبي بمؤسساته وبرلمانه ودوله الأعضاء، ومع أركان حكومتها الذين وقف بعضهم لها بالمرصاد، ومع حزب المحافظين المتمرِّد على قيادتها، ومع البرلمان الذي أسقط في جولات تصويت متعاقبة خططها المقترحة وخذل تفاهماتها مع أوروبا بشأن مسار الانفصال، ثم أبدى رفضاً مُسبَقاً لِمَا وصفته ماي بـ"الفرصة الأخيرة" التي كان يُفترض أن تعرض فيها مشروعها المعدَّل جزئيّاً للتصويت في مجلس العموم في مطلع يونيو/حزيران.

وامتدّت التجاذبات التفاوضية إلى قيادات أحزاب الموالاة والمعارضة فعبّر كل منهم عن اشتراطات صارمة بلغة الإملاءات ثمّ وقفوا متفرِّجين على ورطة رئيسة الوزراء وهي تحمل ملفات التفاوض المثقلة بالتفاصيل بين بروكسل ولندن جيئةً وذهاباً.

بدا الوصول إلى تسوية تحظى بقبول كل هذه الجبهات في ملف معقَّد مثل "البريكست" مهمّة مستحيلة، لكنّ ماي واصلت مناوراتها بإضفاء تعديلات جزئية لترضية الأطراف على نسخ خطة الخروج ومستعملة تكتيك حافة الهاوية.

فالامتناع عن الموافقة على خططها سيفرض خيار الرعب المتمثل بانتهاء مهلة الخروج من الاتحاد بما يعني نهاية العضوية دون اتفاق أو "نو ديل بريكست"، وهي مغامرة ستجرّ تداعيات كارثية محتمَلة على قطاعات اقتصادية وحيوية، بدءاً من النظام المصرفي والتبادل التجاري وانتهاءً بتفاصيل تتخلّل شَتَّى المجالات، وقد تمسّ حركة الطائرات المدنية أيضاً.

لكنّ بروكسل هي التي رضخت لهذا التكتيك بأن اضطُرّت إلى منح لندن مزيداً من الوقت بشكل استثنائي عن الموعد الذي كان محدَّداً في نهاية مارس/آذار المنصرم، على أمل تماسُك الموقف البريطاني على اتفاق الانفصال الذي تمّ التوصُّل إليه مع الاتحاد الذي يواكب المتاهة البريطانية، بينما تقترب المهلة الإضافية لحلول ساعة الصفر يوماً بعد يوم، المقررة في نهاية أكتوبر/تشرين أول المقبل.

غنم الاتحاد الأوروبي فائدة وحيدة على الأقل مما يجري رغم قلقه وتوتُّره من العواقب، فمشروع الفكاك العسير منه صار عبرة لأي محاولة انعتاق أخرى قد تختمر في أي من الدول الأعضاء.

سيبقى التأزيم البريطاني الداخلي درساً للسياسيين وللشعوب أيضاً، فمسار الانفصال لن يكون نزهة لأي بلد آخر يفكِّر في تكرار المحاولة، وهو خيار انتحاري محتمَل لأحزاب الحكم كما جرى مع المحافظين الذين أفَلَت شمسهم.

لكنّ ورطة لندن هي مأزق لأوروبا أيضاً، وهو ما بلغ حدّ العبث باضطرار البريطانيين حسب الأنظمة المعمول بها إلى الاقتراع في انتخابات برلمان الوحدة الأوروبية يوم الخميس 23 مايو/أيار وهم الذين صوّتوا للخروج منها أساساً قبل ثلاث سنوات، وهذا فقط بمقتضى تمديد مهلة الانفصال شهوراً معدودة لا أكثر. وسيكون على نواب بريطانيا أن يشغلوا مقاعدهم في بروكسل وستراسبورغ إلى جانب أقرانهم الأوروبيين شهوراً معدودة أو أسابيع فقط إن وقع "البريكست" فعلاً في الأمد المنظور.

هكذا تَلاحَق سقوط أحجار الدومينو بتأثير الانزلاق غير المحسوب إلى استفتاء "البريكست"، ولن تكون تيريزا ماي على الأرجح آخر قامة تهوي في اختبار الانفصال الجسيم. تترك ماي بعد خروجها من باب 10 دواننغ ستريت إرثاً ثقيلاً من الأعباء على من سيجتازه من بعدها، فإمَّا الوصول إلى حدّ أدنى من التوافق السياسي في لندن، وأو سيتعيّن التفاوض مجدَّداً مع الاتحاد على اتفاق آخر للخروج، على أمل أن يحوز مثل ذلك الاتفاق -إن أمكن إبرامه بصيغة أخرى أساساً- على تصديق داخليّ بريطاني، وهي محاولات غير مضمونة النتائج.

ما كان لتيريزا ماي العنيدة بطبيعتها أن تستقيل من رئاسة الحكومة وحزب المحافظين إلاّ ليقينها أنها بلغت نقطة العجز عن كسب تأييد حزبها أو زحزحة الموقف السياسي الداخلي باتجاه ينسجم مع اتفاقها المبرم مع الاتحاد الأوروبي بشأن خريطة طريق الانفصال، الذي رفضه مجلس العموم البريطاني بنسخه المتعددة التي أجرت عليها تعديلات جزئية أو شكلية، وهو الاتفاق الذي وافقت الدول الأعضاء السبع والعشرون الأخرى عليه بصعوبة أساساً.

ستواصل بروكسل بعد هذه الاستقالة الجسيمة في توقيتها إظهار تمسُّكها الصارم بالاتفاق المبرم مع رئيسة الوزراء المنصرفة، وستلجأ المؤسسة الأوروبية الموحَّدة إلى تكتيك حافة الهاوية على طريقتها مع رئيس الحكومة الذي سيخلف ماي، فالبديل من "خروج منظَّم" هو انفصال فوضوي غير محسوب العواقب، وهو ما يُفترَض به أن ينتصب هاجساً رادعاً للأطراف جميعاً إن تخلّصت من المزايدات.

ستستمرّ المتاهة البريطانية بعد استقالة ماي، وقد تزداد تعقيداً، وقد تدفع بمفاجآت حزبية أو انتخابية من رحم الغموض والحيرة وسيولة المواقف السياسية وقلق المواطنين. تحمل ثاني رئيسة وزراء بريطانية حقيبتها وتترك وراءها أعقد أزمة سياسية تعرفها البلاد لتزداد تعقيداً. وقد تمنح المتاهة المديدة فرصة أخرى للجماهير الحائرة لأن تقول كلمتها بشأن الانفصال مرة ثانية في استفتاء جديد على كيفية تنفيذه أو على فكرته ككلّ، وهو خيار يبقى محتمَلاً بعد أن تَعلّم الجميع درساً قاسياً من سنوات ثلاث، وإن لم يتّعظ بعض السياسيين من مخاضاتها العسيرة.

إن كان الانفصال عن أوروبا بلا اتفاق خياراً حرجاً للغاية لبريطانيا وشركائها الأوروبيين، فإنّ الكلفة الكبرى التي ستتكبّدها المملكة المتحدة قد تأتي إن طرأ اكتساح يميني شعبوي يملأ الفراغ السياسي الذي خلّفه المحافظون وراء سياساتهم المترددة، في "البريكست" وملفات أخرى، بما يجعل المتاهة البريطانية تزداد تعقيداً مع استقالة تيريزا ماي وتختزل مدى الرؤية الاستشرافية لمآلات الموقف الراهن، بما يجلب مزيداً من الصداع لأوروبا.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً