لا شك أن "اتفاقيات إبراهام" عززت مكانة إسرائيل الوجودية كجزء من الخارطة الجيوسياسية وبخاصة في بلدان الشرق الأوسط وبعض دول الخليج والمغرب العربي، تعزز ذلك من خلال القمم التي جرت مؤخراً بين إسرائيل وبعض الدول العربية والتي تمخض عنها مذكّرات التفاهم والتعاون السري منها والعلني. كل هذا تمّ في ظل غياب الحسابات العربية أن "اتفاقيات إبراهام" لا تُسهِم فقط في تطبيع إسرائيل مع المنطقة وتحويلها إلى جزء من التحالفات ومن النسيج الإقليمي العام، وإنما أيضاً بتوسيع هامش وغطرسة إسرائيل واستمرار في مشاريع الاستيطان والتهديد وقهر وقمع الشعب الفلسطيني.
ومن الملاحَظ أنه في ظلّ التفكّك والاضطرابات السياسية والعسكرية والاقتصادية للدول التي كانت تشكل في السابق مصدراً محتمَلاً لتهديد "تل أبيب" كالعراق وسوريا، مضافاً إليها خروج مصر والأردن من خلال اتفاقيتَي سلام "كامب ديفيد " و"وادي عربة"، أصبحت إسرائيل وبشكل كبير لا ترى في أن العالم العربي مصدر تهديد مباشر أو غير مباشر لها. وبذلك تقلّصت "مخاطر" وحسابات اندلاع أي مواجهة مباشرة مع جيوش نظامية عربية محيطة بها. على ضوء ذلك جرى بناء "التعاون العربي-الإسرائيلي" ومنه التعاون العسكري كإجراء في مواجهة "البعبع الإيراني" والحركات غير النظامية والإسلامية كحزب الله ولربما في قادم الأيام حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من المنظمات والحركات.
لا شك أن سقوط رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو ومجيء حكومة أخرى أسهما إلى حد كبير في تحسُّن علاقات إسرائيل مع دول المنطقة العربية والخليجية، التي كان يشوبها سابقاً الكثير من المنغصات، فقد عادت العلاقات مع الأردن إلى التحسن، وكذلك تحسنت العلاقة السياسية والعسكرية والأمنية مع مصر والمغرب والإمارات والبحرين والسودان، لكن إسرائيل مع كل هذا ما زالت ترى أن عدم تغلغل السلام إلى المستوى الشعبي والجماهيري، سيمثّل تحدياً كبيراً لها مع المجتمعات العربية، هذه المجتمعات التي لا تزال تعتبر الصهيونية والكيان الإسرائيلي هما العدوين الأكبرين للعرب، ولقضيتهم المركزية الأولى القضية الفلسطينية .
العرب وصفقات أمنية وعسكرية تسليحية مع الكيان الإسرائيلي
من بين أوجه التطبيع الجديدة الأكثر إثارة للجدل، التعاون العسكري ما بين بعض الدول العربية وإسرائيل. في الماضي شكلت عمليات بيع ونقل الأسلحة للدول العربية مصدر قلق كبير للكونغرس الأمريكي وللحكومة الإسرائيلية، خوفاً من أن تفقد "تل أبيب" تفوُّقها العسكري على جيرانها العرب، ولكن على ما يبدو أنه بعد التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية وقمة النقب (التي عُقدت مؤخراً بمشاركة واشنطن وإسرائيل والمغرب ومصر والبحرين والإمارات) أصبحت الأمور مختلفة كثيراً.
فوفقاً لمسؤولين في لجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية "أيباك" -وهي أقوى جماعة ضغط "لوبي" مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة- فإن المجموعة ستقوم بتخفيف الضغط عن الكونغرس عند توريد صفقات الأسلحة إلى دول الخليج بشرط أن تقوّم بعناية نوعية الأسلحة التي سيمدّ بها الحلفاء في الخليج لردع التهديدات الإيرانية المتنامية والمتصاعدة، والتي تتشاطر إسرائيل مع دول الخليج هَمَّ "كبحها واحتوائها"، شريطة أن لا تُخِلَّ هذه الصفقات بالتفوق النوعي العسكري الدائم لإسرائيل وجيشها، وهذا النوع من الحسابات والتقديرات يجب أن تأخذه السلطات التنفيذية أيضاً بعين الاعتبار عند منح أية تراخيص لنقل أسلحة ومعدات عسكرية إلى الحكومات العربية في الشرق الأوسط.
من خلال المتابعة فإن تقارير قديمة وحديثة تشير إلى أن إسرائيل تقوم بتصدير 55% من إنتاجها العسكري إلى دول عربية، منها المغرب ومصر، وبخاصة في عهد "الرئيس السيسي"، وذلك بصفقات علنية أو سرية عن طريق طرف ثالث، في إطار خطتها لتكون المصدّر رقم واحد لدول الشرق الأوسط الراغبة في الحصول على السلاح، باعتبار أن ذلك يساعدها من الناحية الاقتصادية ويدعم تحكُّمها في الجيوش والأنظمة العربية من خلال سيطرتها على السلاح وقطع التبديل اللازمة له.
المعروف أن الجيش المصري قبل العهد الرئاسي الحالي ظل لسنوات طويلة حريصاً على إيجاد توازن في التسليح مع إسرائيل رغم أن الكفة كانت تميل لصالح "تل أبيب"، التي كانت تحصل على الأسلحة الأمريكية الأكثر تفوقاً وتقدماً، إلا أن الجانب المصري كان يحاول تعويض ذلك بإدخال تعديلات على الأسلحة الروسية وغيرها الموجودة لديه، حتى يظل هذا التوازن قائماً بين الطرفين. أما الآن وحسب مهتمين ومحللين عسكريين مصريين فمصر باتت تستورد الأسلحة من إسرائيل، وهذا ما قضى تماماً على فكرة التوازن التسليحي وجعل الجيش المصري تحت رحمة إسرائيل بشكل مباشر بعد أن كان تحت رحمتها بشكل غير مباشر نتيجة السيطرة الأمريكية على التسليح المصري .
عملياً فإن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن القادة والحكام العرب أن الخطورة ليست فقط في نوعية الأسلحة التي يتم استيرادها ويُتحكم بها وتجعل الدول العربية في تسلُّحها تحت رحمة إسرائيل، ولكن الخطر الأكبر في توسيع التعاون العسكري ليشمل بعد التسليح التدريب، ثم المناورات المشتركة، وهو ما يخدم أمن إسرائيل ومجتمعها ويضرّ بالأمن الوطني والقومي العربي.
الملاحظ من قمة وزراء الخارجية التي تم عقدها في وقت سابق في "النقب" أنه سيجري على الأغلب مستقبَلاً تشكيل "تحالف دفاعي إقليمي" غير مسبوق بين الجيش الإسرائيلي وجيوش بعض الدول العربية في الشرق الأوسط، وسيشتمل هذا التحالف على إجراء مناورات مشتركة واستعدادات عملياتية للصد المشترك لمختلف التهديدات، وبخاصة الإيرانية، أو تلك التي قد ينفذها "وكلاء إيران" من اليمن وسوريا والعراق.
وعليه، وحسب مصادر إسرائيلية، فإن المغرب والإمارات والبحرين قد طلبت من إسرائيل أنظمة أسلحة دفاعية وامنية متنوعة. وتحدثت الإمارات والبحرين عن حاجتها إلى الطائرات المسيَّرة والقبة الحديدية ونظام الرادار "Green Pine" والنظام الصاروخي "Arrow" للدفاع ضد الصواريخ الباليستية، مع العلم أن هذه الطلبات ليست جديدة، فقد نُقلَت سابقاً إلى الجانب الإسرائيلي عبر قنوات مختلفة.
إن المغرب، وهو أحد الدول المطبّعة، يسعى حثيثاً لتعزيز التعاون العسكري مع إسرائيل، فصفقات الأسلحة بين الطرفين ليست جديدة، لكنها كانت قبل التطبيع قائمة على التعاون الاستخباراتي وتجارة السلاح، فـ"إسرائيل" باعت المغرب أنظمة عسكرية وأنظمة اتصالات عسكرية وأنظمة مراقبة عبر طرف ثالث. وفي العام 2013 اشترت القوات الجوية المغربية 3 طائرات من دون طيار من نوع "هيرون" من صنع شركة صناعات الطيران الإسرائيلية، بكلفة 50 مليون دولار، وبالتالي تأتي اتفاقية تصنيع مسيرات "كاميكاز" الإسرائيلية في المغرب جزءاً من تاريخ طويل للتعاون كان طابعه سرّياً في السابق، وبعد التطبيع أصبح يأخذ الطابع العلني.
أسئلة كثيرة تُطرَح أمام الخطى المتسارعة لدول التطبيع في توقيع اتفاقيات التعاون الاستخباراتي مع الكيان الإسرائيلي، وفي شراء صفقات أسلحة أو في مجال التطوير العسكري، فما الهدف من سباق التسلّح هذا؟ فهل هو تحضير لخوض حروب بالوكالة، أم هو تعبير عن حالة قلق وعدم اطمئنان من متغيّرات قد تحدث فجأة؟ وهل يتماشى امتلاك السلاح الإسرائيلي مع مزاعم "التعايش والسلام" لتلك الدول المطبعة، أم إنَّ وراء هذا السباق أهدافاً كامنة.
الحقيقة الدامغة ربما التي يمكن استنتاجها من خلال سلوك الدول المطبعة وسباقها نحو التسلّح لا تخرج من تحت عباءة الانخراط في محور إسرائيلي-عربي يمتلك قدرة عسكرية مؤثّرة لمواجهة الدول التي ربما تعارض التطبيع، وتهدّد استكمال خطواته في المنطقة، وهي إيران على وجه التحديد، التي تشكّل تهديداً كبيراً، وتسعى هذه الدول لعزلها تحت عنوان "إيران العدوّ المشترك"، بمساندة الإدارة الأمريكية عبر موافقاتها على امتلاك هذه الدول الأسلحة الأكثر قوة وتطوُّراً، بهدف ترجيح كفة موازين القوة لمصلحة حلفائها الإقليميين. الانتقال من صفة العدو إلى صفة الشريك الاستراتيجي هو ما تطمح إليه إسرائيل في المنطقة، وتُعتبر صفقات التسليح، وبناء عدو مشترَك (إيران، والجماعات الإسلامية المسلحة) عاملين مؤسسين في عملية الانتقال هذه.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.