تكشف العلاقة بين الكاتب والقارئ عن توتّر والتباس هو جزء أساسي من العملية الإبداعية، خاصة حين نتحدث عن الشعر، وهو وفقاً لتعريف معجم المعاني "قول مؤلّف من أمور تخييلية"، أي أنه بطبيعته ينتمي إلى عالم الخيال لا الواقع، لكنه أيضاً، وهنا المفارقة، ينطلق من نقطة في الواقع، سواء كانت فكرة أو إلهاماً أو تجربة شخصية أو ذكرى مدفونة، ويتوجّه في نهاية المطاف إلى قارئ ما.
التباس سيقترن باسم الشاعر الفلسطيني محمود درويش لاحقاً، وهو ما عبّر عنه الشاعر الأسكتلندي والكاتب الرحّالة ستيفنسون (1850 - 1894) بقوله "هذه هي مرارة الفن؛ يرى المرء في ذهنه أثراً مثالياً، لكن الواقع يضع العقبات أمامه باستمرار". والواقع ليس فقط الجانب الإجرائي من العملية الإبداعية، بل أيضاً بنية الفهم لدى المتلقي.
"ومن سوء حظ المؤلف
أن الخيال هو الواقعي على خشبات المسارح
خلف الكواليس
يختلف الأمر"
خجلاً مصحوباً بالتيه
أحاط سوء الفهم بمحمود درويش، سواء من خلال شغف القراء بتتّبع تفاصيل من حياته وإعادة تداولها بالإعجاب أو السخرية، و بغض النظر عن مدى صدقها، أو بارتفاع صوت النقّاد ضده إما اعتراضاً على موقف سياسي أو رفضاً لاختزال الشعر الفلسطيني في درويش.
أما هو، فكان يسارع إلى التخلِّي عن أي حوارات شخصية أُجريت معه أو مقالات نقدية كُتبت عنه، حيث لم يحتفظ بأي منها وفقاً لشهادة أصدقائه، لقد احتفظ فقط بهذه المساحة من الخفاء والتي يمكنها استيعاب التأويلات المتعددة لحياته، لا لنصوصه فقط، بل حتى لصورته عن نفسه.
يروي أصدقاؤه أنهم حين كانوا يصرّون على جلوسه معهم لمشاهدة إحدى اللقاءات التلفزيونية التي استضافته، كان يترك لهم غرفة المكتب التي يوجد بها التلفاز ويذهب إلى الغرفة المجاورة.
يكشف أحد أصدقائه أيضاً، عن هوايته الغريبة في تمزيق أعماله غير المكتملة، ربما حتى لا يطلّع أحد على ما يعتبره كل كاتب سرّه الشخصي، و طريقته الخاصة في تطوير أفكاره ومشاعره وصولاً إلى صياغتها من خلال اللغة ومنحها للقارئ كي يفهمها بالطريقة التي تلائمه. الشاعر هنا، على الرغم من سطوته على نصوصه، إلا أنه يعرف حدوده مع النص جيداً.
نقل درويش هذه العلاقة المركبة بينه وبين نفسه إلى قرائه، ليتحول في لحظة ما من الزمن إلى ذلك الشاعر الذي نردد أشعاره بصيغة نكات في مجالس الأصدقاء، ثم نعود إلى قراءتها ليلاً دون أن نخبر أحداً بذلك.
"سميت باسمي مصادفةً
وانتميتُ إلى عائلة مصادفة
وورثت ملامحها والصفات.. وأمراضها
أولاً خللاً في شرايينها وضغط دم مرتفعاً
ثانياً خجلاً في مخاطبة الأم والأب والجدة الشجرة"
الكتب مجاز الأمكنة
تجمع الكاتب بمكتبته علاقة خاصة على الدوام ويحدد موقفه من المكتبة موقفه من اللغة بشكل أو بآخر.
عبّر الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، والذي قدّم نفسه للعالم من خلال شغفه بالمكتبات، عن أمنية غريبة؛ حيث كان يحلم في بعض الليالي بمكتبة "شاملة مجهولة الاسم، لا يكون فيها للكتب عنوان ولا تتباهى بمؤلف" وذلك لكي تُشكّل دفقاً مستمراً من القصّ تجتمع فيه كل الأنواع والأساليب، "تيار يمكنني الغطس فيه في أي نقطة من مجراه" كما وصفه مانغويل.
لم تكشف الطاقة الإبداعية التي امتلكها محمود درويش عن نفسها في البداية من خلال فن الشعر، بل عبْر فن الرسم. ولأنها موهبة مُكلفة، لم يتمكن من رعايتها في طفولته حين عجز والداه عن شراء الأدوات اللازمة. "آلمني ذلك كثيراً، فبكيت وتوقفت عن الرسم، وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر؛ فكتابة الشعر لا تتطلّب نفقات مادية" على حد وصفه.
كان يلتقط درويش، في الصباح، ما يلفت نظره في مكتبته من موسوعات أو قواميس، لإجراء تدريبات ذهنية مردداً لنفسه "يُفرحك أن تعرف أنك لا تعرف"، ويفضّل من بينها لسان العرب لابن منظور، فهو "مرجع عظيم الشأن" كما وصفه لأصدقائه.
المكتبة الأولى التي امتلكها درويش كانت منسوخة بخط اليد، كما أوضح أخوه أحمد، حيث كانوا يستعيرون الكتب من أصدقائهم، ليقوم درويش بنسخ ما يختاره منها مثل أشعار نزار قباني والسيّاب والبياتي.
ارتبط درويش بالمتنبي، واعتبره أعظم شاعر في تاريخ اللغة العربية. كما سكنت قلبه القاهرة في شقة جاردن سيتي التي استقرّ فيها هناك فترة من الزمن، في البناية ذاتها التي سكنها الأديب المصري توفيق الحكيم.
لم يأخذ درويش كتبه معه قبل رحيله من أي بيت سكنه، بل يتركها وراءه ليجدها آخرون، ربما لأن الكتب لم تخلق كي نحتجزها في أسوار خشبية، أو نسجنها داخل تصورّاتنا الضيقة عنها.
أثناء اعتقاله في الستينيات، لم يُسمح له بإدخال أي كتب، إلا المجموعة القصصية "همس الجنون" لنجيب محفوظ. تعرف السلطة جيداً أن عزل الكاتب لا يكون بحجب الناس عنه، بل بعزله عن كتبه، وهذا وحده ما قد يدفعه إلى الجنون.
كتب درويش في رسالته الأولى لصديقه الشاعر سميح القاسم، عام 1986"من حق الولد أن يلعب خارج ساحة الدار، من حقه أن يقيس المدى بفتحة الناي، من حقه أن يقع في بئر أو فوهة كبيرة في جذع شجرة خروب، من حقه أن يضل الطريق إلى البحر أو إلى المدرسة. ولكن ليس من حق أحد، حتى لو كان عدواً، أن يُبقي الولد خارج الدار".
لم يكن موته استثناءً من عادة التخلّي عن الكتب، فقبل رحيله الأخير، تبرّع بأكثر من ألفي كتاب للمكتبات الأردنية.
هل كان يخشى درويش المحبة القاسية؟
"في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون على صحته باقتضاب، ويُطمئنهم باختصار تُخالطه السخرية. لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول" بهذه الكلمات ابتدأ الناقد الفلسطيني فيصل دراج حديثه عن لقائه الأخير بمحمود درويش قبل وفاته عام 2008.
أفصح عن الحوار الذي دار بينهما، حيث اصطحبه درويش إلى مكتبه لحظة وصوله، على غير عادته، فقد كان "أكثر ألفة" كما أوضح دراج. وسأل درويش صديقه عن أحوال الدنيا، وحين أجابه أنه يواصل التكيُّف، علّق درويش "إن الحكمة تُعالج الإخفاق".
كانت حياته الأخيرة في عمّان محدودة، وترك مفتاحاً ثانياً للمنزل مع صديقه المقرّب "الأميجو" علي حليلة، ويرد على مكالمته الصباحية باقتضاب "تخافش لسه ما متش".
أحاطه أصدقاؤه المقربون بكمّ هائل "من الحب غير القاسي" كما وصفته إحدى صديقاته بسمة النسور؛ احتراماً للمسافة التي كرسّها درويش في حياته بينه وبين العالم، وهي المسافة، ربما، التي مكّنته من الكتابة حيث كتب درويش عدداً كبيراً من دواوينه خلال وجوده في بيته المتوسط قلب العاصمة الأردنية عمّان وكان يردد على الدوام "اخترت عمّان لأنها مدينة هادئة شعبها طيب وقريبة من فلسطين، فيها أستطيع أن أعيش حياتي، وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمّان". كان عليه إذن التخفف من كل شيء استعداداً للرحيل.
وصف درّاج مشهده الأخير، قبل أن يودعه وقد اصطحبه درويش إلى باب المنزل "رفع يده مودّعاً، وغطت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال".
"لم يمت أحد تماماً
تلك أرواح تغيّر شكلها ومقامها
يا موت
يا ظلّي الذي سيقودني
اجلس على الكرسي
ضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تُحدق يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف الأخيرة
أنت أقوى من نظام الطب
أقوى من جهاز تنفُّسي
ولست محتاجاً لتقتلني إلى مرضي
كن شفافاً
بريداً واضحاً للغيب
ولا تجلس على العتبات كالشحّاذ
أو جابي الضرائب"
* المقتطفات الشعرية الواردة في التقرير مأخوذة من الجدارية ولاعب النرد، آخر قصائد محمود درويش.
*جميع المشاهد المروية عن حياة محمود درويش مأخوذة من أصدقائه والكاتب الصحفي محمد شعير.