يعيش المهاجرون الأفارقة في تونس أوضاعاً صعبة منذ خطاب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي دعا في 21 فبراير/شباط الماضي، إلى وضع حدّ لما قال إنّه تدفق "أعداد كبيرة" من هؤلاء المهاجرين، معتبراً أن الأمر "ترتيب إجرامي يهدف لتغيير تركيبة تونس الدّيمغرافية".
وحسب تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فإن "قوات الجيش والحرس الوطني والشرطة التونسية داهمت صفاقس وما حولها، واعتقلت مئات الأفارقة في يوليو/تموز 2023، كما نقلوا قرابة 1200 شخص في مجموعات عدّة إلى الحدود مع ليبيا والجزائر".
شتاء قاسٍ
"كبدائيين، شربنا مياه الأمطار الراكدة في الأتربة، وطاردنا الحيوانات سهلة الإمساك لنشويها على الحطب، حتى إنّ الناس صاروا يشمئزون منّا، وأحياناً يتجنبون النظر إلينا"، هكذا قضى المالي أحمد الكوني وأصدقاؤه عدّة أيام في مدينة ماجل بلعباس من محافظة القصرين القريبة من الحدود الجزائرية وسط غربي تونس.
أحمد الذي دخل تونس قبل عام ونصف العام من الحدود الجزائرية بعد أن تنقل من ليبيا، يؤكد أنّه يقضي الليل تحت الحيطان القريبة من المقاهي، علّ نادلاً يعرض عليهم أن يتدفؤوا ولو لدقيقتين، أو تحت الأشجار التي لا تستطيع أن تحميهم من لفحات البرد وقطرات المطر التي صارت لعنة تطاردهم بحلول فصل الشتاء، الذي يسجل أرقاماً قياسية للبرد في محافظة القصرين.
ويقول الكوني لـTRT عربي: "بتنا نفكر فقط في سلامتنا الجسدية، وألّا نتعرّض للعنف من بعض الذين يروننا تهديداً لأمنهم الوطني، رغم أنّنا لا نسعى للبقاء هنا، نحن نريد العبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط، ذاك هو حلمنا".
ويؤكد أنّهم باتوا ملاحَقين لتقديم أوراق إقامة لا يملكونها، وأغلب التونسيين رفضوا استقبالهم بسبب الخوف من تعرضهم لعقوبات، فيما يشغّلهم البعض في أراضٍ زراعية بعيدة عن أعين القوات الأمنية، وبأجور زهيدة جدّاً، لا تكفي لشراء وجبة عشاء، وأحياناً لا يدفعون لهم.
وشهدت المدينة نفسها خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفاة أحد المهاجرين، وأكدت مصادر طبية من داخل المستشفى المحلي لـTRT عربي، أنّ أحد أهم أسباب الوفاة يتعلق "بتعرضه للبرد الشديد"، غير أنّ الحادثة لم تحظَ باهتمام الرأي العام التونسي.
وأكد أغلب من التقتهم TRT عربي، أنّهم تعرضوا وفي أكثر من مناسبة إلى "سرقة هواتفهم أو القليل من المال الذي يملكونه، وأنّهم عملوا في حظائر بناء مرهقة مقابل 5 دنانير تونسية يومياً (1.6 دولار)".
الكوني، كآلاف الأفارقة الذين توافدوا إلى تونس عبر الحدود الجزائرية خلسةً ومن دون ختم جواز سفر، يفكر في المرور نحو إيطاليا، حيث المئات من أبناء مدينته الذين تمكنوا عبر وساطة المهربين من السفر إلى صفاقس (الجنوب التونسي)، ومنها للهجرة إلى إيطاليا.
ويتخذ أغلب المهاجرين الأفارقة الحقول وغابات الزيتون الممتدة في المناطق الريفية ملاذاً مؤقتاً لهم في العراء وتحت خيام من البلاستيك إلى حين اتضاح الرؤية حول مستقبلهم، وذلك عقب اضطرابات وخلافات مع السكان المحليين.
ويهدف كثير من المهاجرين في تونس إلى العبور بشكل غير مشروع وعلى متن قوارب متهالكة إلى أوروبا، بحثاً عن حياة أفضل في ظل ما تعانيه دول إفريقية عديدة من حروب وأوضاع اقتصادية صعبة، لكنهم غالباً لا يستطيعون تحمل التكلفة التي تبلغ مئات الدولارات للوصول إلى إيطاليا، وهي رحلة يُقدم عليها أيضاً عدد كبير من التونسيين.
وإجمالاً، وصل إلى السواحل الإيطالية حتى الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أكثر من 152 ألف مهاجر أغلبهم من سواحل تونس، وفق بيانات وزارة الداخلية الإيطالية، وهو رقم أعلى مما سُجّل في الفترة نفسها من عام 2022 (قرابة 95 ألفاً)، وفي عام 2021 (63 ألفاً).
رحلة باهظة وخطيرة
في محافظة القصرين التي تبعد 380 كيلومتراً عن العاصمة تونس، بدأت رحلة TRT عربي من أجل معرفة تفاصيل رحلة الأفارقة إلى تونس في مرحلة أولى، ثم كيفية ترتيب مراحل تهريبهم إلى أوروبا في مرحلة ثانية.
وحسب معطيات تحدث عنها أكثر من مهاجر إفريقي رفضوا الكشف عن هوياتهم، فإنّ عمليات تهريبهم في الاتجاهين التونسي أو الجزائري تجري عبر سيارات المهربين، بمبالغ مالية تقدر بنحو 250 ديناراً تونسياً (80 دولاراً) للرحلة.
وتتراوح المبالغ من تونس إلى سواحل أوروبا بين 8 آلاف دينار و15 ألف دينار (نحو 2600-5000 دولار)، عبر مهرّبين يعرضون عليهم ذلك في أماكن تُعرف بحضور دوري للأفارقة.
أما رحلتهم من مواطنهم الأصلية إلى الجزائر وليبيا وتونس، فهي مختلفة، إذ يهرب الأفارقة من بلدانهم غالباً لأسباب تتعلق بالحروب أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، بحثاً عن ظروف أفضل للعمل أو للمرور عبر أمواج المتوسط إلى الضفة الأخرى، ثم يفكرون بدايةً في الدخول عبر ليبيا، معتقدين أنّ الأمر سيكون سهلاً، نظراً لعدم الاستقرار الذي تعيشه البلاد، حسبما يروي ستيفان (اسم مستعار).
لكنّ هناك آخرين يتعرّضون لشتى أنواع الانتهاكات على أيدي عصابات الاتجار بالبشر والميليشيات المنتشرة على الحدود، إذ جرى اعتقالهم وتعرضوا للإهانات والعنف الجسدي.
ويضيف ستيفان لـTRT عربي: "كنا نموت ببطء هناك، لكن نجحنا في الهرب والوصول إلى تونس مشياً، وينقلنا أحياناً مهرّبو الوقود، الذين يطلبون مبالغ مالية كبيرة، لمسافات محدّدة".
ويلفت ستيفان إلى أنّهم "صاروا يفضلون حياة الليل من أجل الراحة، رغم ما فيها من برد وشقاء، لأنّهم تعبوا من الاختباء من مكان إلى الآخر هرباً من أعين رجال الأمن التونسي الذين يحاولون اعتقالهم كلما رأوهم.
ظروف غير إنسانية
ويرى رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بسام الطريفي، أنّ المهاجرين الأفارقة "يعيشون ظروفاً غير إنسانية، تتمثل في تعرّضهم للعطش والجوع الشديدين، وانعدام الإحاطة الاجتماعية والنفسية، كما أنّهم يعانون تتبعات أمنية غير منصفة"، على حدّ تعبيره.
ويضيف الطريفي لـTRT عربي، أنّ المهاجرين يمضون رحلة شاقة وغير هيّنة بين بلدانهم الأصلية وتونس، يسجلون خلالها وفيات، كما يدفعون أموالاً طائلة من أجل الوصول إلى تونس.
وتشكل مدينة صفاقس، وسط شرق تونس، نقطة الانطلاق الرئيسية للهجرة غير النظامية إلى أوروبا.
وفيما لم تتفاعل جمعية "تونس أرض للهجرة واللجوء" مع طلب TRT عربي حول متابعتهم أوضاع هؤلاء المهاجرين الأفارقة وما تملكه من معطيات حولهم، كشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو مجموعة تُعنى بموضوع الهجرة والمهاجرين، عن أنّه "وثّق المئات من حالات الاعتقال التعسفي والطرد من المنازل من دون سابق إنذار".
وأضاف المنتدى أنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنّه "وثّق بعض اعتداءات عنيفة، بعضها باستخدام سكاكين"، مشيراً إلى أنّ "الشرطة كانت بطيئة في التعامل معها".
وتشير الأرقام الرسمية إلى وجود 21 ألف مهاجر من دول إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، ويرجح المنتدى الاقتصادي والاجتماعي أن يكون الرقم الحقيقي أكبر، لكن ليس أكثر من 50 ألفاً.
وقدرت مصادر من المجتمع المدني لوكالة الأنباء الألمانية عدد الوافدين من المهاجرين غير النظاميين في العامرة وحدها اليوم بنحو 10 آلاف.
وألغت تونس شرط الحصول على تأشيرة لعديدٍ من البلدان الإفريقية خلال العقد الماضي، كما أن الحصول على تصريح إقامة يمكن أن يكون أمراً صعباً للغاية.
حرمان من مقومات الحياة
أما التشادي أبو بكر أحمد، فيقول إنه لا يبالغ إنْ قال "إنهم محرومون من أساسيات الحياة؛ إذ لا أكل جيداً، وليس لهم مكان ينامون فيه في هذا الشتاء.. كانوا يتدبرون أمرهم خلال الأشهر الماضية، لكن في هذا البرد الأمر ليس سهلاً أبداً، رسمياً أصبحوا يعيشون مثل الحيوانات"، مشيراً إلى عدم توافر دورات مياه ولا أدوات نظافة.
من جانبه، رأى الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أنّ أوضاع المهاجرين الأفارقة في تونس صارت مأساوية بعد خطاب الرئيس سعيّد.
ويلفت بن عمر في حديثه مع TRT عربي، إلى أنّهم "ممنوعون من السكن ومن التنقل ومن العمل بحكم قوانين تونسية تتعارض مع التزاماتها الدولية".
ويضيف أنّهم اتخذوا من غابات الزيتون بالمناطق الريفية النائية مسكناً لهم، وأن الإجراءات العقابية المتخذة بحقهم، بمن فيهم النساء والأطفال، خصوصاً الذين طُردوا إلى الحدود الليبية والجزائرية، سيئة للغاية.
وأكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أنّ تونس -في ما يتعلّق بالأفارقة السود- ليست مكاناً آمناً لإنزال مواطني البلدان الثالثة الذين يجري اعتراضهم وإنقاذهم في البحر، وليست "بلداً ثالثاً آمناً" لنقل طالبي اللجوء.