في واقعة ليست جديدة، ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مساء الأحد الماضي، مجزرة في مخيم للنازحين بمنطقة تل السلطان غربي رفح الواقعة أقصى جنوب قطاع غزة، أحرق فيها عدداً من المدنيين، وخيامهم وبيوتهم الصفيح التي لجؤوا لها احتماءً من القصف المسعور للاحتلال الذي لاحقهم في شتى أنحاء القطاع.
وفي هذه المنطقة التي كان أعلنها "آمنة" مسبقاً، نفذ الاحتلال مذبحة خلّفت في عدة ساعات 45 شهيداً، معظمهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى إصابة مئات بجروح غائرة.
ورغم الإدانات الدولية جراء المجزرة التي وقعت، وقرار المحكمة الدولية بوقف العمليات العسكرية في رفح قبلها بيومين، لم يكتف الاحتلال بما فعله مساء الأحد، واستكمل القصف في اليوم التالي مرتكباً 3 جرائم ضد الإنسانية راح ضحاياها 72 شهيداً خلال 48 ساعة فقط، بالتزامن مع توغل آليات إسرائيلية في المنطقة، وفق ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة أمس.
ما المسار القانوني الواجب في جرائم إسرائيل؟
للشهر الثامن على التوالي يرتكب الاحتلال الإسرائيلي إبادة في حق الفلسطينيين في غزة، وهي من أخطر الجرائم الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي والجنائي، إذ إن المحكمة الجنائية الدولية هي الجهة المختصة بمحاكمة مجرميها وإصدار العقوبات، التي تتراوح بين السجن لفترات طويلة قد تصل إلى مدى الحياة، ومصادرة الممتلكات، وتقديم تعويضات للضحايا، وحتى الإعدام في بعض الأنظمة القانونية المحلية.
وفي بعض الأحيان قد تُنشَأ محاكم دولية خاصة، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) والمحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR).
كذلك في بعض الحالات، قد تفرض الدول أو المنظمات الدولية عقوبات اقتصادية أو دبلوماسية على المتورطين في ارتكاب المجازر، تشمل تجميد الأصول وحظر السفر.
وعبر التاريخ، عوقب عددٌ من المجرمين لارتكابهم جرائم مماثلة لما تفعله إسرائيل اليوم، ففي عام 1994، شهدت رواندا إبادة جماعية جراء "حرب أهلية" قُتل بها ما يقرب من 800,000 من شعب التوتسي على يد ميليشيات الهوتو.
وفي نفس العام أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR)، لمحاكمة المتورطين في الإبادة الجماعية، مصدرة أحكاماً بالسجن مدى الحياة ضد عديد من القادة العسكريين والسياسيين المسؤولين، وكذلك السجن لفترات طويلة لآخرين متورطين.
وفي العام التالي شهد العالم مذبحة جديدة في أثناء حرب البوسنة، قتلت القوات الصربية فيها نحو 8,000 من البوسنيين المسلمين في سريبرينيتسا، وفي نفس العام اتهمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) كُلاً من رادوفان كاراديتش رئيس جمهورية صرب البوسنة وراتكو ملاديتش قائد جيش جمهورية صرب البوسنة بسبب مسؤوليتهما المُباشرة عن جرائم الحرب ضد السكان المسلمين البوسنيين في سربرنيتسا، وحكمت عليهما بالسجن مدى الحياة، وكذلك السجن لمدة طويلة لمن شاركوا في التخطيط والتنفيذ.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أجريت بين عامي 1945و1946 محاكمات نورمبرغ للقادة النازيين المسؤولين عن المحرقة التي قُتل فيها ملايين اليهود وغيرهم، وإثر قرار المحكمة أُعدم 12 من القادة النازيين الرئيسيين، وحُكم بالسجن مدى الحياة أو لفترات طويلة على متورطين آخرين.
وفي أثناء حرب فيتنام، قتلت القوات الأمريكية نحو 500 مدني في قرية ماي عام 1968، وحوكم المسؤولون عن المجزرة، إرنست ميدينا وويليام كالي، وحُكم على كالي بالسجن مدى الحياة، ولكن خُفف الحكم إلى 20 سنة ثم إلى 10، وللأسف قضى في النهاية 3 سنوات فقط في الإقامة الجبرية.
ما أثر المجازر الحالية على الدعاوى المرفوعة ضد إسرائيل وسيرها؟
ورغم كل ما ارتكبه الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني سواء في الحرب الحالية على غزة أو خلال 80 عاماً تمارس فيها التطهير العرقي والفصل العنصري، لم تُجر إلى أي محاكمة قانونية فعلية حتى الآن.
ويرى الباحث القانوني والكاتب الفلسطيني وائل المصري، أن استمرار المجازر الإسرائيلية سيعزز قناعة فريق التحقيق في المحكمة الجنائية بأن الهجمات السابقة والحالية جاءت بشكل متعمد وفي إطار هجوم منهجي وواسع النطاق، الأمر الذي من شأنه أن يقدم مزيداً من الإثباتات على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ويقول المصري في حديثه مع TRT عربي، إن تلك الانتهاكات ستكون محل فحص المدعي العام في المحكمة الجنائية لتوجيه الاتهامات إلى القادة الإسرائيليين المتهمين، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يؤاف غالانت، كما أن استمرارهم في ارتكاب المجازر قد يوسع عمليات التحقيق لتشمل توجيه الاتهامات إلى قادة في الجيش وعلى رأسهم رئيس الأركان هاليفي.
ويتابع الباحث أن الأمر لا يختلف كثيراً لمحكمة العدل الدولية التي كانت عبّرت حيثيات قرارها الصادر في 26 يناير/كانون الأول الماضي عن قناعتها أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، "لذلك فاستمرار السلوك الإسرائيلي كما هو دون الامتثال لقرارات المحكمة من شأنه أن يضع إسرائيل أمام خيارات صعبة في مواجهة المحكمة وأن يرسخ قناعة لدى المحكمة خلال نظرها الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أن إسرائيل تنتهك الاتفاقية، ما يؤدي إلى إمكانية إدانتها في النهاية بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.
ويضيف: "كذلك من المحتمل أن يؤدي استمرار المجازر والعملية العسكرية الإسرائيلية في رفح، إلى تعديل المحكمة في مرحلة لاحقة التدابير التقييدية، وأن تأمر بوقف الحرب الإسرائيلية بشكل كامل على قطاع غزة لا محافظة رفح وحدها".
لماذا تفلت إسرائيل دائماً من العقاب؟
لم تكن مجزرة رفح في 26 مايو/أيار سابقة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي ولا حتى خلال تلك الحرب الدائرة على قطاع غزة، ففي اليوم العاشر من الحرب ارتكب الاحتلال مجزرة أطلق فيها قنابل ثقيلة ضد نازحين وجرحى ومرضى كانوا يحتمون في مستشفى الأهلي العربي المعمداني وسط مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 500 فلسطيني.
وفي الشهر ذاته كانت مجزرة مخيم جباليا في 31 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ دمر الاحتلال بشكل كامل مربعاً سكنياً مكتظاً، مستخدماً 6 قنابل تزن كل واحدة منها 1000 كجم، خلّفت وراءها أكثر من 400 بين شهيد وجريح.
وفي اليوم التالي، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة أخرى بمنطقة الفالوجة، راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد، بعد قصفه مربعات سكنية تعج بالنازحين.
وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، إثر عمليات قصف مروعة في جباليا شمال القطاع ومناطق أخرى، استشهد أكثر من 700 فلسطيني في غزة في مجازر متفرقة ارتكبها الاحتلال خلال 24 ساعة فقط، وفق ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة حينها.
وفي 24 من الشهر الأول للعام الجاري، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي منازل سكنية مكتظة بالذين نزحوا من شمال القطاع، وتسبّب في استشهاد أكثر من 70 فلسطينياً.
وقبل مجزرة رفح الأخيرة، كانت مجزرة رفح الأولى في 12 فبراير/شباط الماضي، إذ استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي مناطق متفرقة في المدينة، من ضمنها منازل مأهولة بالمدنيين، وخلال نصف ساعة فقط قتلت أكثر من 100 شهيد فلسطيني.
وبعد نحو شهر منها، وقعت مجزرة مستشفى الشفاء، إذ اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى الواقع غرب مدينة غزة، وارتكبت مذابح مروعة بحق الجرحى والنازحين، شملت عمليات إعدام ميداني لمصابين ومعتقلين وُجدوا مكبلين بالأصفاد، وخلال 9 أيام واستشهد نحو 400 فلسطيني ودُفن عديد منهم في ساحات المستشفى لإخفاء جريمته.
ولكن رغم كل تلك المجازر المتتالية والدعوات الصادرة من المحاكم ضد إسرائيل، يتحدى الاحتلال الإسرائيلي جميع القوانين والقرارات الدولية دون رفة جفن، ويفلت دائماً من العقاب.
وفي هذا الصدد يقول الباحث القانوني وائل المصري، إن الدعم الغربي وخصوصاً الأمريكي للأسف ساعد إسرائيل على الإفلات من العقاب بصورة متكررة، وحوّل إسرائيل إلى دولة مارقة، مضيفاً أن ذلك الدعم، ربما يكون أحد أسباب تأخر المحكمة الجنائية الدولية في فتح تحقيقات وتوجيه الاتهامات إلى قادة إسرائيل.
واستشهد الباحث بأنه في السابق، لم يفتح الادعاء العام تحقيقاً بشأن الحالة في فلسطين إلا في 2021، رغم انضمام فلسطين إلى المحكمة منذ العام 2015.
ويرى المصري، أنه بصورة عامة تمثل الحرب الحالية على قطاع غزة انهياراً أخلاقياً وقيمياً ومأزقاً قانونياً لكل الجهات التي تواصل دعمها لإسرائيل، "لذلك فضّل عديد من الدول الصديقة لها أن ينأى بنفسه عن الانتهاكات الإسرائيلية المروعة للقانون الدولي التي ترتكبها في غزة".
ويقول الباحث القانوني رغم أن المحاسبة تأخرت فإن دولاً عديدة بادرت إلى اتخاذ خطوات عقابية ضد إسرائيل بسبب جرائمها في غزة، وشملت تلك الخطوات سحب السفراء أو قطع العلاقات الدبلوماسية أو وقف تصدير السلاح.
ويختم المصري حديثه بأنه من المحتمل أيضاً أن تتوسع عملية المحاسبة لتشمل الدول ذات الاختصاص القضائي الدولي، التي تملك محاكمها صلاحية محاكمة مرتكبي الجرائم بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان وقوع الجريمة، ما يجعل القادة الإسرائيليين مطلوبين للمحاكمة أمام المحاكم الوطنية لدول مختلفة حول العالم.