بعد توافق قوي استمر قرابة عامين منذ تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدأت تلوح في الأفق بوادر خلافات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين بشأن السياسة الاقتصادية، في وقت تحاول واشنطن بناء نظام اقتصادي عالمي جديد لاحتواء الطموحات الصينية والروسية.
وتسود تخوفات أوروبية، وفق ما يرى خبراء، من أنه إذا لم يجر التعاطي مع هذه الخلافات بحكمة، فإن رؤية إدارة بايدن للنظام الاقتصادي الجديد، يمكن أن تتدهور إلى عالم من التكتلات الاقتصادية المتنافسة.
- أزمات وردود
ومن أبرز الأزمات الأخيرة، بدء إدارة بايدن تقديم مبلغ قياسي قدره 370 مليار دولار من الإعانات الفيدرالية الجديدة للسيارات الكهربائية ومزارع الرياح والبطاريات وتقنيات الطاقة النظيفة الأخرى.
وهذه الخطوة جاءت ضمن "قانون خفض التضخم" الذي وقع عليه بايدن في أغسطس/آب 2022.
ويقدم القانون الجديد خصومات ضريبية للمستهلكين الأمريكيين للسيارات الكهربائية طالما أن 40% من المواد الخام في بطارياتهم يجري استخراجها ومعالجتها في الولايات المتحدة.
وحسب موقع المشرعين الأمريكيين الرسمي، فإن قانون خفض التضخم لعام 2022 يهدف إلى الاستثمار في إنتاج الطاقة المحلية والتصنيع، والحد من انبعاثات الكربون بنسبة 40% تقريباً بحلول عام 2030.
ويضيف أنه سيجري استثمار حوالي 300 مليار دولار في برامج خفض العجز و369 مليار دولار في برامج أمن الطاقة وتغير المناخ على مدى السنوات العشر المقبلة.
ويشعر قادة الاتحاد الأوروبي بالقلق لأن مثل هذه الإعفاءات الضريبية قد تدفع صانعي السيارات إلى نقل المصانع إلى الولايات المتحدة وجذب الاستثمار إليها بدل أوروبا، حسب مجلة فورين بوليسي الأمريكية.
وهذا يعني أن شركات صناعة السيارات الأوروبية مثل فولكس فاجن وBMW وغيرها، ستخسر في سوق الولايات المتحدة.
ويرى القادة الأوروبيون، وفق مطلعين، أن مثل هذه الإجراءات غير عادلة وتؤدي إلى تفاقم تحديات القدرة التنافسية للقارة الأوروبية، وربما إجبار أوروبا على الدخول في سباق تسلح مكلف مع الولايات المتحدة والصين.
وبدأت تصدر ردود أفعال أوروبية ضد الإجراءات الأمريكية. ومن أحدث الأمثلة على ذلك، إلغاء المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تيري بريتون حضور قمة التجارة والتكنولوجيا في الولايات المتحدة مطلع ديسمبر/كانون الأول 2022 "لأن هذا اللقاء لا يولي اهتماماً كافياً للمشاكل الأوروبية" وفق قوله.
واشتكى بريتون وقتها من أن جدول أعمال القمة مع المسؤولين الأمريكيين "لم يعد يوفر مساحة كافية للقضايا التي تهم العديد من وزراء الصناعة والشركات الأوروبية".
وقبلها بأيام قليلة، أخبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السناتور جو مانشين في واشنطن العاصمة بالقول: "أنت تؤذي بلدي"، وفق ما روى الأخير لصحيفة بوليتيكو الأمريكية.
وتلقى السناتور استقبالاً فاتراً في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بعد أن واجهه أيضاً كل من المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس وزراء لوكسمبورغ "كزافييه بيتل".
يذكر أن السبب في تعرض النائب جو مانشين لهذا التوبيخ الأوروبي يعود إلى أن صوته (رقم 50) كان هو الذي حسم إقرار القانون بشكله النهائي، في ظل الغالبية التي يحظى بها جو بايدن في مجلس الشيوخ.
كما امتنعت الحكومة الهولندية علناً في ديسمبر/كانون الأول 2022، عن قبول ضغوط الولايات المتحدة على منتجيها الرئيسيين لمعدات تصنيع الرقائق، ASML و ASM International، لقطع العلاقات مع الصين، وفق فورين بوليسي.
وأطلقت الولايات المتحدة حملة كاسحة لمنع مبيعات أشباه الموصلات المتطورة ومعدات تصنيع الرقائق إلى الصين، لكنها لم تقنع الحلفاء مثل اليابان وهولندا بالمضي قدماً معها.
وقالت وزيرة الاقتصاد الهولندية ميكي أدريانسنز لصحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية إن بلدها "إيجابي للغاية" بشأن العلاقات مع الصين وإن أوروبا وهولندا "ينبغي أن تكون لهما استراتيجيتهما الخاصة" بشأن التحكم في الصادرات إلى بكين.
وتعود الانقسامات المتزايدة جزئياً إلى الحرب الروسية على أوكرانيا. فبينما حافظت الولايات المتحدة وأوروبا على جبهة موحدة بشأن العقوبات ضد روسيا والمساعدات العسكرية لأوكرانيا، دفعت القارة العجوز ثمناً اقتصادياً أعلى بكثير للصراع.
ويقول البروفيسور والخبير الاقتصادي مراد كواشي إن واشنطن "استفادت من أزمة الطاقة (عقب حرب أوكرانيا) وبدأت بتصدير الغاز إلى بعض الدول الأوروبية بأسعار مرتفعة وصلت إلى 4 أضعاف مقارنة بالسعر الذي كانت تصدره روسيا إلى الدول الأوروبية".
وبين في حديث لـTRT عربي إن "أوروبا تورطت بالحرب الروسية بسبب تبعيتها لواشنطن، وبات الاقتصاد الأمريكي هو المستفيد الأكبر من الأزمة".
وأضاف: "لقد أصبحت الولايات المتحدة ملاذاً آمناً للعديد من رؤوس الأموال الأوروبية والاستثمارات العالمية، واستفادت من أزمة الطاقة واستطاعت رفعها وبيعها بأسعار عالية حتى لحليفها الأوروبي".
وعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في معظم الدول الأوروبية إلى ما يصل إلى 10 أضعاف المستويات الأمريكية، مما وضع الصناعة الأوروبية في وضع تنافسي غير مُوات، حسب ما تقول مجلة فورين بوليسي الأمريكية.
وبينما ساعدت الولايات المتحدة أوروبا على تعويض خسارة الغاز الروسي بصادرات الغاز الطبيعي المسال، فإنه يجري بيعه بأسعار السوق المتضخمة حالياً.
وقال سفير فرنسا في واشنطن فيليب إتيان: "نحن ممتنون لأن الولايات المتحدة تزود أوروبا بالغاز الطبيعي المسال، لكن هناك مشكلات بشأن السعر".
وتخلص المجلة إلى القول: "يدرك بايدن والقادة الأوروبيون جيداً أنهم لا يستطيعون السماح بفتح صدع أساسي عبر المحيط الأطلسي".
وأردفت: "أكثر من أي وقت مضى منذ ذروة الحرب الباردة، يجبر التهديد المزدوج لروسيا والصين، الولايات المتحدة وأوروبا على التعاون والعمل لحل النزاعات الاقتصادية التي قد تتفاقم لسنوات عديدة".
وتشير المخاطر الكبيرة إلى أن الجانبين سيجدان مخرجاً، وعلى حد تعبير ماكرون فإن "الظروف تعني أنه ليس لدينا بديل سوى العمل معاً"، حسب ما نقلت المجلة.
وبدوره، تطرق الأكاديمي الاقتصادي مراد كواشي إلى ما أسماه "الصراع الخفي" بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وأشار إلى الانقسامات التي شهدتها الدول الأوروبية فيما بينها بسبب حرب أوكرانيا وتورط كتلة بروكسل فيها "بشكل مباشر"، وأيضاً "أزمة الطاقة التي أصبحت تشهدها أوروبا والأزمة الاقتصادية بشكل عام والتي أنتجت ضغوطاً شعبية كبيرة".
وأردف: "ما أجج الانقسامات داخل البيت الأوروبي هو اختلاف الحكومات فيما بينها بين مؤيد للسياسات الأمريكية ورافض لها".
وتابع أن "هناك حكومات أوروبية لديها طاعة عمياء لواشنطن في حين هناك أخرى تريد أن تخرج من جلباب السيطرة الأمريكية وهو ما أجج الانقسامات داخل أوروبا".
- ما الحل؟
وعن الحلول، تقول صحيفة بوليتيكو أوروبا إن كتلة بروكسل تحتاج إلى إكمال مشروع السوق الموحدة عبر تنسيق أكبر فيما بينها.
وبينت أنه من الضروري وجود جهة تنظيمية على مستوى الاتحاد الأوروبي للأسواق الرقمية والاتصالات، على غرار لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية، والتي من شأنها أن تضع القارة في مكانة رائدة عالمياً.
في السياق ذاته يرى خبراء أن هناك حاجة إلى قواعد منسقة لحوكمة الشركات وتعزيز اتحاد أسواق رأس المال، وإزالة الحواجز أمام الخدمات المهنية عبر الحدود.
كما يتطلب سوق الطاقة لعموم أوروبا أيضاً الاستثمار في خطوط نقل الطاقة الجديدة لزيادة أمن ومرونة الإمدادات داخل القارة، وفق الموقع.
وإضافة إلى ذلك، بدلاً من تخفيف قواعد مساعدة الدول، يجب تغيير قواعد المنافسة، مع مراعاة المنافسين العالميين، حسب موقع بوليتيكو أوروبا. وأردف: "ستسمح لنا القواعد الأكثر واقعية بإنشاء شركات أوروبية قادرة على مواجهة عمالقة الولايات المتحدة والصين".
وفي السياق ذاته، كشفت المفوضية الأوروبية في الأول من فبراير/شباط 2023، عن خطة لمواجهة التحديات التي يفرضها قانون خفض التضخم الأمريكي، في خضم مكافحة تغير المناخ.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال تقديمها خطة صناعية للصفقة الخضراء، إن الصناعات التي تهدف إلى تحقيق انبعاثات صفرية، تعد الأكثر أهمية في هذا المجال.
وقد جرى وضع الخطة على أربع ركائز: خلق بيئة تنظيمية مواتية للصناعات التي تهدف إلى تحقيق انبعاثات صفرية، وتوفير التمويل الوطني والأوروبي، وضمان المهارات المناسبة للانتقال الأخضر، فضلاً عن وضع أجندة تجارية طموحة.
وبينت فون دير لاين في خطابها أن دول الاتحاد الأوروبي ترحب بالقانون الأمريكي، من جهة مكافحة تغير المناخ.
لكنها أصرت على أنه يجب أن يكون هناك مجال متكافئ في المنافسة العالمية وفي السوق الأوروبية الموحدة، مضيفة "هذا مهم جداً بالنسبة لنا".
واتفقت دول الاتحاد الأوروبي عموماً على أن قانون خفض التضخم الأمريكي، يهدد القدرة التنافسية للقطاعات الرئيسية المحددة للتحول الأخضر في الصناعة الأوروبية، وفق مارغريت فيستاغر، نائبة الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية.