منذ إعلان اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل برعاية أمريكية، حدث نشاط دبلوماسي مكثف بين الرباط وتل أبيب اتسم بتوقيع اتفاقيات وتبادل زيارات، وطوال 3 سنوات عمّ الهدوء الشارع المغربي، قبل أن ترتفع حدة الأصوات المطالبة بإلغاء هذا التقارب من جديد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تجاوزت العلاقات المغربية الإسرائيلية سنَتَها الثالثة، بعد إعلان تطبيع العلاقات في ديسمبر/كانون الأول عام 2020، حينها انضمت المملكة إلى دول عربية اتخذت خطوات مماثلة، مؤكدة في الوقت نفسه أن دعمها القضية الفلسطينية "ثابت لا يتغير".
بعد ثلاث سنوات، يُطرح موقف شائك أمام الرباط على أكثر من واجهة، بين الحفاظ على علاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية جيّدة مع تل أبيب، وضغط الشارع المُطالب بقطع العلاقات، وتأكيد مستمرّ من الدولة المغربية دعم القضية الفلسطينيّة.
طوفان شعبي متواصل
لم يهدأ الشارع المغربي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ما جعل المغرب يشمل ثاني أكبر عدد من المظاهرات عربيّاً بعد اليمن، حسب مشروع بيانات مواقع النزاع المسلح وأحداثها (ACLED).
وخرج مئات آلاف المغاربة في مئات المظاهرات والمسيرات الشعبية، بينها 5 مسيرات وطنية كان آخرها مسيرة الأحد 24 ديسمبر/كانون الأول في العاصمة الرباط، التي دعت إليها "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع" للمطالبة بوقف الحرب على القطاع وإنهاء العلاقات المغربية الإسرائيلية.
ورفع المشاركون في المسيرة الحاشدة -التي تحركت باتجاه مبنى البرلمان- صوراً لضحايا العدوان، وأبي عبيدة الناطق باسم كتائب القسّام، والعلمين الفلسطيني والمغربي، وسط هتافات تندد بالمجازر الإسرائيلية وصمت المجتمع الدولي، وأخرى تحيّي المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني.
وحول هذه المظاهرات، يقول الناشط محمد الرياحي الإدريسي إنها "ملحمة غير مسبوقة يسطّرها الشعب المغربي".
ويوضّح لـTRT عربي أن ذلك يتجلّى في الزخم التضامني مع غزة وفلسطين، "من حيث العدد الكبير للفعاليات، واتساعها لتشمل كل المغرب، وأيضاً من ناحية التنوع والإبداع الذي رافقها حتّى أضحت نموذجاً ملهماً لشعوب المنطقة".
ويكشف الرياحي، وهو عضو الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة، أن عدد الفعاليات التي نظمتها الهيئة وحدها حتى الجمعة 29 ديسمبر/كانون الأول بلغ أكثر من 1700 مظاهرة ومسيرة في مختلف مدن وقرى المغرب، للمطالبة بوقف العدوان على قطاع غزة، الذي يتعرض لحرب إسرائيلية خلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى المدنيين.
في هذا الصدد، يلفت الرياحي -عضو الهيئة الداعية إلى مظاهرات جمعة الغضب- إلى أنها "فعاليات موحّدة في الزمان ومتفرقة في المكان، هدفها توسيع دائرة التضامن لتشمل كل المغرب بقُراه ومُدنه الكبرى والصغرى، وتحقيق الوعي العام بمطالب الشعب الفلسطيني العادلة وجرائم الاحتلال"، فضلاً عن "توسيع دائرة رفض التطبيع الرسمي الذي يدخل عامه الرابعة".
هذا بالإضافة إلى المظاهرات التي تنظمها هيئات مختلفة، أبرزها الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع ومجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين التي دعت إلى التظاهر كل أربعاء وجمعة أمام مبنى البرلمان، إضافة إلى تنظيمها مسيرات وطنية بالرباط وطنجة.
سلاح المقاطعة
لم يغفل التضامن المغربي سلاحه الفعّال في البلاد، إذ شكّلت المقاطعة الشعبية كابوساً لعلامات تجارية أجنبيّة تنشط في المغرب ويشتبه بدعمها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
واستهدفت الحملة منتجات إسرائيل أو دول داعمة للضغط لوقف الحرب على غزة، وهو ما انعكس على المطاعم والمقاهي المعنيّة أيضاً بهذه الحملات، إذ ظهرت فارغة من الزبائن، حسب مقاطع فيديو نشرها ناشطون مغاربة.
ونشرت شركات ومطاعم ومقاهٍ أجنبية خلال الأسابيع القليلة الماضية، مقاطع فيديو تدعو إلى اقتناء سلع وخدمات من خلال عروض مشجعة، بما في ذلك مطاعم "ماكدونالدز" التي وصلت نسبة المقاطعة لفرعها المغربي إلى 70%، رغم التفاعل مع المقاطعين بنشر إعلانات تطلب فيها من المغاربة عدم مقاطعتها معلنة "التضامن مع غزة"، وهو ما قابله ناشطون على مواقع التواصل بالسخرية والاستهجان.
في هذا الصّدد يرى سيون أسيدون، أحد مؤسسي حركة مقاطعة إسرائيل العالمية (BDS) ومنسق أنشطتها في المغرب، أن هذه الدعاية التجارية الأخيرة التي تستجدي عبرها الشركات المواطن المغربي ليوقف حراكه، تبيّن مدى قوة المقاطعة الشعبية وحجم تأثيرها.
ويلفت أسيدون في حديث مع TRT عربي إلى أن معركة طوفان الأقصى والأحداث الأخيرة لعبت دوراً أساسيّاً في التأثير في وعي المقاطعة في المغرب وعلى مستوى العالم.
ويرى أن حملات المقاطعة تعدّ "حركة تلقائية عفويّة لعدد من المواطنين الذين شعروا بضرورة بيان موقفهم من الصهيونية وحلفائها"، مؤكداً أنها تحركت "بإرادة قوية وعفوية وواسعة النطاق لتصير فعلاً أساسيّاً بالنسبة إلى المغاربة".
ويوضح أسيدون أنه توجد مقاطعة منظمة إلى جانب العفوية، لكن الأخيرة -حسب تعبيره- تحظى بأهمية أكبر.
ويشير إلى أنّها "وسيلة من الوسائل الأساسيّة للمقاومة، لأنها في متناول كل مواطن، إذ لا يمكن لأحد أن يمنعه من أن يقاطع، وهذا مهم جدّاً في ظاهرة العصيان المدني الفردي".
استفتاء ضد التطبيع
يعدّ شعار "الشعب يريد إسقاط التطبيع" أبرز الشعارات التي يهتف بها المتظاهرون في كل مظاهرة، ما يراه معارضو التطبيع "استفتاءً شعبيّاً".
ويعتبر سيون أسيدون مقاطعة منتجات إسرائيل أو الشركات الداعمة لها بمثابة "استفتاء شعبي" يعبّر من خلاله المغاربة عن أنهم ليسوا طرفاً في التطبيع، مبيناً أنها "وسيلة ضغط يعبّر بها المواطن المغربي عن هذا الموقف ليبرّئ نفسه من قرار التطبيع".
بدوره يرى جمال العسري، المنسّق الوطني للجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، أنه "ما دامت الحكومة قد وقّعت الاتفاقية دون أن تسلك المسالك الدستورية بالمرور عبر البرلمان لنقاشها والتصديق عليها، وبالتالي فهي اتفاقية غير دستورية".
ويؤكد العسري لـTRT عربي أن "رأي الشعب المغربي لم يُؤخذ، سواء عبر ممثليه في البرلمان أو الهيئات السياسية التي تؤطره، لذلك نعتبر هذه المسيرات بمثابة استفتاء نقول فيها بصوت واحد (لا للتطبيع)، على اختلاف أطياف الشعب الأيديولوجية والسياسية".
وحتى الساعة، "هذه هي الأصوات المرتفعة في الشارع المغربي، ولم نسمع أي صوت آخر يقول عكس ذلك"، كما يقول العسري.
علاقات على المحك
ويؤكد عبد القادر الكيحل، المستشار البرلماني عن حزب الاستقلال (أغلبية)، أن تطبيع الرباط وتل أبيب محدود في السياق والمجالات، ولم يكن على حساب القضية الفلسطينية.
ويلفت الكيحل في تصريح لـTRT عربي، إلى أنه رغم هذا فإن أحداث غزة "تبيّن أنه لا بد من التفكير مليّاً في أنّ التعامل يكون فقط مع الدول التي تؤمن بقيم السلام والحرية والقانون الدولي الإنساني".
ويقول المستشار البرلماني إن "التطبيع من عدمه لا يؤثر في مواقف المغرب رسميّاً أو شعبيّاً".
ويشدّد على أن ما يقع اليوم سيكون له ما بعده، ولا بد من أن يؤثر في مسار التطبيع بعد تقييم الأحداث"، مبيناً في الوقت نفسه أن القضية الفلسطينية ما زالت في حاجة إلى حراك أكبر، إذ إن "ما يقع اليوم في غزة يبيّن الوجه الحقيقي للاحتلال والغرب الذي يسانده".
من جهته، يرى جمال العسري، الأمين العام للحزب الاشتراكي الموحد (معارض)، أن معركة "طوفان الأقصى" وما صحبها من مسيرات حقّقت أهدافاً عدة، بينها عودة فلسطين إلى الواجهة في الشارع والمجتمع، وتنامي التضامن الشعبي المطلق مع المقاومة.
ويضيف العسري أن ذلك رافقه خفوت الصوت الذي كان يبرّر التطبيع، وتغيَّر الخطاب الرسمي الذي أصبح يدين العدوان الإسرائيلي بدل الحديث عن أحداث عنف بين طرفين، إضافةً إلى ركود العلاقات المغربية الإسرائيلية بعد أن كانت الاتفاقيات تشغل العناوين الكبرى.
ويؤكد العسري أن الهدف الأخير الذي ينتظر مناهضو التطبيع تحقيقه في المرحلة القادمة هو "إنهاء اتفاقية التطبيع رسميّاً وإغلاق مكتب الاتصال بالرباط، ونحن على أبواب هذا الهدف".
يُذكر أنه منذ تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، توقف زخم الزيارات المتوالية التي كان يجريها وزراء وأمنيّون إسرائيليون إلى الرباط.
وكانت صحيفة "ذا جيروزاليم بوست" الإسرائيلية قالت، في 7 ديسمبر/كانون الأول، إن المغرب أصبح حذراً في علاقاته مع إسرائيل منذ اندلاع المواجهات في 7 أكتوبر/تشرين الأول بين حركة حماس وجيش الاحتلال لافتةً إلى أنّ العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين مجمّدة تقريباً على إثر ما يجري في قطاع غزة.
وفي تفاعله مع الحرب على غزة، حمّل العاهل المغربي إسرائيل مسؤولية التصعيد الذي عدّه نتيجة "تنامي ممارساتها المتطرفة والممنهجة، والإجراءات الأحاديّة والاستفزازات المتكرّرة في القدس".
وندّد الملك "بالتمادي في استهداف المدنيين"، و"سياسة العقاب الجماعي" و"التهجير القسري ومحاولة فرض واقع جديد"، مشدداً على أن "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية".