مثلت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي خطوة جديدة في استراتيجية القاهرة في القرن الإفريقي وحوض النيل الرامية إلى تطويق إثيوبيا.
ولا يخفى عن عين المتابع في الفترة الأخيرة حراك دبلوماسي مصري نشط في عدد من دول المنطقتين المذكورتين، يتضمن توقيع اتفاقيات في مجالات مختلفة تبرز منها الأمنية والعسكرية والإنمائية، في حين لا يغيب عن خلفية المشهد الانسداد في مفاوضات سد النهضة، والإصرار الإثيوبي على ملئه الشهرين القادمين في ظل رفض مصري سوداني ومطالبة بأن يسبق ذلك توقيع اتفاق ملزم.
جيبوتي.. المهمة الصعبة
تعد الزيارة التي قام بها عبد الفتاح السيسي واستمرت بضع ساعات في 27 مايو/أيار الأولى من نوعها لرئيس مصري إلى جيبوتي منذ استقلالها عام 1977، حيث تباحث مع الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيله في عدد من الملفات أهمها أمن البحر الأحمر وسد النهضة.
وفي هذا السياق لجيبوتي أهمية استراتيجية كبيرة على مدخل باب المندب، حيث تضم على أراضيها قواعد عسكرية للعديد من القوى الدولية والإقليمية، كما أنها تعد في الوقت نفسه الممر البحري الذي تمر منه 95% من الحركة التجارية عبر البحر الأحمر لإثيوبيا الحبيسة.
ويبدو أن القاهرة تعمل على تمتين علاقتها بجيبوتي في إطار استثمار التخوفات الجيبوتية إثر توقيع اتفاقية السلام الإريترية الإثيوبية عام 2018، والتي مهدت لإمكانية استخدام إثيوبيا للمواني الإريترية الأقرب بما سيؤثر على المصالح الجيبوتية مباشرة.
كما أن أعين إثيوبيا توجهت مؤخراً إلى ميناء بربرة الصومالي، ممّا عزز مخاوف جيبوتي من مخططات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ولا سيما في ظل تحالفه مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي عدو جيبوتي اللدود في القرن الإفريقي.
ورغم هذه المخاوف فإن ما يزيد على مليار دولار من الأرباح الجيبوتية سنوياً من استخدام إثيوبيا لموانيها تكشف صعوبة المهمة المصرية في مواجهة حضور أديس أبابا القوي في جيبوتي، حيث ساندت الأخيرة ما سُمي بعملية إنفاذ القانون التي خاضها رئيس الوزراء آبي أحمد ضد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في حين تحفظت على قرار للجامعة العربية داعم لمصر والسودان في قضية سد النهضة في يونيو/حزيران 2020.
دول حوض النيل وتطويق إثيوبيا
وفي ما يبدو عودة مصرية إلى إفريقيا تندرج الزيارة إلى جيبوتي في إطار ديناميكية مصرية نشطت في دول حوض النيل مؤخراً، تهدف إلى تطويق إثيوبيا بحضور القاهرة في المنطقة من خلال اتفاقيات متنوعة برز فيها الجانب العسكري والأمني.
وكانت أوضح مفاعيل هذه الاتفاقيات مناورات "حماة النيل" التي عقدها الجيشان المصري والسوداني أواخر مايو/أيار الماضي، ووصفت بأنها الأضخم وضمت تدريبات لأفرع القوات المسلحة المختلفة براً وبحراً وجواً.
وكانت القاهرة والخرطوم وقعتا اتفاقية عسكرية في مارس/آذار الماضي، أشار رئيس الأركان المصري محمد حجازي على إثرها إلى أن "تعدد وخطورة التهديدات المحيطة بالأمن القومي والمصالح المشتركة تستدعي التكامل بين الأشقاء".
وشهدت الأشهر الثلاثة الأخيرة فقط توقيع اتفاقيات عسكرية أمنية مع العديد من الدول، ففي 26 مايو/أيار وقعت مصر اتفاقية تعاون دفاعي مع كينيا، وكما في حالة جيبوتي استفادت مصر من استثمار الخلافات الكينية الإثيوبية متعددة الأوجه.
وتم التوقيع ضمن جولة إفريقية لرئيس أركان الجيش المصري شملت أيضاً رواندا، حيث عقد مع نظيره الرواندي جان بوسكو كازورا الاجتماع الأول للجنة العسكرية المصرية الرواندية المشتركة، وأكد خلاله دعم كل أوجه التعاون مع المؤسسة العسكرية الرواندية.
وسبق ذلك توقيع مصر مع أوغندا في 8 أبريل/نيسان اتفاقية ذات صبغة أمنية "لتبادل المعلومات العسكرية مع مصر"، ووقعت كذلك مع بوروندي في الشهر نفسه اتفاقية تعاون عسكري، ذكر المتحدث العسكري باسم الجيش المصري تامر الرفاعي أن من بين ما تهدف إليه "تأكيد توافق الرؤى تجاه الموضوعات التي تمس المصالح المشتركة للقوات المسلحة لكلا البلدين".
لم يقتصر الحراك المصري في دول حوض النيل على التعاون في الجانب العسكري الأمني فقط، بل سعت القاهرة إلى تعزيز حضورها من خلال مظلة من المشاريع تتضمن على سبيل المثال بناء السدود، كسد "يوليوس نيريري" لتوليد الطاقة الكهرومائية في حوض نهر روفيجي بتنزانيا.
كما ركزت القاهرة على مجال الطاقة البديلة من خلال مجموعة من المشاريع في دول مختلفة منها أوغندا وإريتريا وجنوب السودان وغيرها.
وفي 30 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ناقشت قيادة الجيش المصري "الاستراتيجية المقترحة لتفعيل الدور المصري مع دول حوض النيل في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية" التي أعدتها هيئة العمليات بالجيش، وقدمت مقترحات وآليات لتفعيل التعاون الاستراتيجي لتحقيق مصالح البلاد العليا، وفق ما أورده المتحدث باسم الجيش المصري العقيد تامر الرفاعي.
سؤال القدرة والجدوى
غير أن هذا النشاط المصري المتسارع لتطويق إثيوبيا يطرح أسئلة حول قدرة مصر على تقديم "المغريات" الكافية لإحداث تحولات استراتيجية في دول حوض النيل وجارات إثيوبيا في ظل حضور أديس أبابا التاريخي والمتشعب فيها.
فعلى سبيل المثال تربط جيبوتي شبكة اتفاقيات مع إثيوبيا تتعدى استخدام المواني إلى التعاون في مجال الطاقة الكهربائية والبنية التحتية، كما أُعلن عن توقيع اتفاقية لمد خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي بتكلفة أربعة مليارات دولار، وتعد جيبوتي أحد المواقع المرجحة للقاعدة العسكرية البحرية التي تنوي إثيوبيا بناءها بتعاون فرنسي وإحياء سلاح البحرية الإثيوبي من خلالها.
كما تمد إثيوبيا جيبوتي بالمياه من خلال مشروع دُشن عام 2017 ويهدف إلى توصيل المياه العذبة من مدينة "هدجالا" الإثيوبية إلى إقليم "علي صبيح" الجيبوتي، من خلال ضخ ما يقدر بنحو 100 ألف م3 من المياه يومياً، حسب ما أشار مدير المشروع ديميلاش مولو.
ومع أن سد النهضة أحد محركات الاستراتيجية المصرية تجاه هذه المنطقة، فإن من المستبعد أن يكون لهذه الدول تأثير مباشر في ملف السد الذي يعاني انسداداً مزمناً في ظل فشل أطرافه في الوصول إلى اتفاقيات مرضية للجميع.
والصبغة العسكرية الأمنية لكثير من الاتفاقيات المذكورة لا تخفي عدم القدرة على ترجمة ذلك إلى تشكيل محور مصري إفريقي مضاد عسكرياً لإثيوبيا، كما أن خيار الحرب يبدو هو الأبعد حتى الآن في ظل فيتو من القوى الكبرى عليه، وعدم جاهزية بعض الأطراف اقتصادياً كالسودان لتحمل تكاليف حرب في ظل اقتصاده المنهَك.
ورغم هذا ستستفيد القاهرة من الجانب الاستخباراتي في توفير المعلومات الأمنية حول خصمها الشرق إفريقي الذي يبدو أن معركتها معه ستطول.
هذا التحرك المصري يعبر عن رؤية جديدة لدى القاهرة، ضمن استراتيجية تتعدى اختراق دول إفريقية حساسة بالنسبة إلى إثيوبيا، إلى محاولة خلق بيئة أمنية وسياسية متفهمة، وربما داعمة لاحقاً، للمخاوف المصرية المتعلقة بتهديد سد النهضة لأمنها المائي.