وتبدو آفاق الحوار المفترض غير واضحة، في ظل توجّه الرئيس إلى المحكمة العسكرية لملاحقة عضو مجلس الشعب (البرلمان) التونسي، راشد الخياري وإصدار بطاقة جلب بحقه، على خلفية تسريبات وتسجيلات صوتية يتهم فيها الرئيس قيس سعيد بتلقي أموال خارجية خلال حملته الرئاسية وبـ"الخيانة"، وهو ما أثار غضباً لدى الرأي العام التونسي حول محاكمة مدنيين عسكرياً، على اعتبار أنّ القضاء العسكري مختص بقضايا العسكريين فقط، محذّرين من خطورة توظيف المحكمة العسكرية سياسياً، والعودة إلى النظام الاستبدادي.
كما أثار خطاب الرئيس، خلال الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي الأحد 18 أبريل 2021، الذي قال فيه إنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد هو القائد الأعلى للقوات العسكرية والمدنية، جدلاً واسعاً بين السياسيين والنشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي في تونس ودول عربية، واعتُبر الخطاب الأخطر، وبمثابة تحضير لانقلاب ولاتخاذ قرارات خطيرة قد يقدم عليها في الأيام القليلة القادمة.
وكان سعيّد قد شدّد أمام جمع غفير من أسلاك الأمن الداخلي، وبحضور كل من رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنّوشي، بلهجة حادة اعتاد اعتمادها في كل خطاباته الأخيرة، على أنّ رئيس الجمهورية هو "القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية وللقوات المسلحة المدنية (الأمنية) ولكل أسلاكها"، مستدركاً "لا أميل لأن أحتكر هذه القوات، ولكن النص واضح، ومن لم يتضح له سنة 2014 فليكن هذا واضح منذ اليوم".
سعيّد يطبّق الدستور وفق أهوائه
سعيّد استدل بتأويله لنص الدستور عبر مقارنته بين ما جاء في دستور البلاد لسنة 1959 ودستور الثورة، لافتاً إلى أنّ الدستور القديم ورد فيه أنّ "رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات العسكرية"، بينما لم يحدد دستور 2014 ماهية القوات المسلحة التي يتولى قيادتها رئيس الجمهورية، في حين أنّ الفصل 19 من الدستور التونسي يميّز جيّداً بين القوات الحاملة للسلاح، وقوات الأمن الداخلي، وفق ما أكّده أستاذ القانون الدستوري شكري عزوز لـTRT عربي.
ويصف عزوز سعيّد بأنّه غريب الأطوار وعجيب القراءات، منذ كان زميله أيام الكلية، لافتاً إلى أنّه بات ينتهج نسقاً تصاعدياً في خرق الدستور، بغاية إجهاض النظام السياسي الحالي، لأنّه لا يتلاءم مع الأفكار التي يحملها.
وأشار عزوز إلى أنّ الإشكال الحقيقي في البلاد أنّ سعيّد رافض لفكرة الحوار نفسها، مع أيّاً من كان، وحول أيّ موضوع، معتبراً أنّ الأمور اختلطت عليه بعد أن دخل قصر الرئاسة، ولم يعد يفرّق بين الصلاحيات المطلقة والصلاحيات المقيّدة.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يستغلّ سعيّد وهو أستاذ قانونٍ دستوري، الدستور وفق أهوائه، وبحسب مصالحه، فقد سبق أن رفض التعديل الوزاري الذي صادق عليه البرلمان في 27 يناير/كانون الثاني 2021، واعتبره أيضاً غير دستوري من الناحية الإجرائية.
كما رفض في 3 أبريل/نيسان الجاري، المصادقة على قانون معدل للمحكمة الدستورية، مبرّراً ذلك بما جاء في الفقرة الخامسة من الفصل 148 بالدستور، التي تنص على اختيار أعضاء المحكمة في أجل أقصاه سنة بعد الانتخابات التشريعية (أجريت في أكتوبر/تشرين الأول2015)، ويرى في هذا السياق عزوز أنّ سعيّد ينظر إلى المحكمة الدستورية على أنّها وسيلة لعزله، لأنّه يشعر بنفسه دائماً مستهدفاً.
أحزاب تدين
تصريحات الرئيس التونسي، قيس سعيد عن قيادته للقوات المسلحة العسكرية والأمنية، باتت الموضوع الأبرز في الساحة السياسية بتونس، حيث تداوله سياسيون وحقوقيون وناشطون على نطاقٍ واسعٍ، وتفاعلت معه أغلب الأحزاب، كما وصفه رئيس الحكومة هشام المشيشي، في أول رد فعل على تصريحات رئيس الجمهورية، بأنّه "خارج السياق"، مضيفاً، خلال تصريحات لوسائل إعلام محلية، "نحن نحتفل بعيد المؤسسة الأمنية ولا من موجب للدخول في قراءات فردانية وشاذة للنص الدستوري".
وتابع "هذا يذكرنا بضرورة وجود أولوية قصوى لإرساء المحكمة الدستورية، باعتبارها المؤسسة الوحيدة للبت في هذه المسائل"، وأنّ "قوانين الدولة تنفذ ومن يرى غير ذلك يمكنه التوجه إلى الهياكل المختصة".
من جانبها، صعّدت حركة "النهضة" صاحبة الأغلبية البرلمانية، الثلاثاء، لهجتها ضد سعيد، في بيان تضمّن اتهاماً للرئيس بـ"تهديد الديمقراطيّة"، ورأت في بيانها أنّ تصريحات سعيّد تشكّل دَوساً على الدستور وقوانين البلاد، وتعدّياً على النظام السياسي، وعلى صلاحيّات رئيس الحكومة، مؤكدة "رفضها المَنزع التسلّطي لرئيس الدولة"، داعيةً القوى الديمقراطية إلى "رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي، وتركيز المحكمة الدستورية".
هذا واعتبر رئيس كتلة حزب قلب تونس صادق جبنون في تصريحه لـTRT عربي، أنّ هذا التصريح لم يخرج عن سياق تصريحات قيس سعيّد بنفس اللغة والمضمون، وأنّه يدخل في إطار تواصل الصراع السياسي القائم بين السلطات الثلاث (رئاسة الحكومة، رئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية)، والسعي إلى توسيعها في ظلّ غياب المحكمة الدستورية.
حزب الحراك بدوره، عبّر عن استغرابه الشديد من خطاب الرئيس، ودعا رئاسة الجمهورية وبقية السلطات إلى النأي بالنفس عن مثل هذه التأويلات الخلافية والتي لا تقدم حلولاً جدية لمشاكل الشعب بقدر ما تعمق الانقسام داخله وداخل مؤسسات الدولة، بما يهدد بالانحراف بالمسار الديمقراطي وبوحدة الدولة والسلم الأهلي.
مخاوف من انقلاب
ولقي تصريح سعيد تفاعلاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بآراء منها مؤيدة وأخرى رافضة تماماً، ومعتبرة أنّ تصريحاته "انقلاب على الدستور" و"احتكار لتأويله"، حيث اعتبر السياسي البارز أحمد نجيب الشابي في تدوينة على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أنّنا "نشهد منذ مدّة على الهواء مباشرةً انقلاباً ناعماً على السلطة يقوده رئيس الجمهورية".
وأضاف أنّ هذا الانقلاب "تمثلت حلقاته الأولى في تعطيل تشكيل الحكومة، ثم في الاعتراض على قيام المحكمة الدستورية، وأخيراً في إعلان الرئيس توليه رئاسة قوات الأمن الداخلي.
كما اعتبر الأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي في تصريحه لـTRT عربي الأمرَ، حلقةً خطيرة من معركة النفوذ الضارية بين حركة النهضة ورئيس الدولة، وخطوة جديدة في تجاوز أحكام الدستور وتطويعه لتجميع كل السلطات بين يديه، مشدّداً على أنّ رئيس الدولة يعتبر نفسه الجهة الوحيدة المخوّلة بتأويل الدستور.
وأضاف الشابي أنّ سعيّد يسعى لبسط نفوذه على الأمن الداخلي، بعد أن أقحم المحكمة الدستورية في الصراع السياسي مع خصومه، معتبراً ما يقوم به خروجاً عن الدستور واستيلاءً على جزء من صلاحيات رئاسة الحكومة، وهو أمر خطير جداً، وفق تقديره.
من جانبه،قال رفيق عبد السلام ، القيادي في حركة النهضة، إنّ سعيد "يريد أن يجمع السلطات المدنية والعسكرية والدنيوية والدينية بين يديه، استناداً إلى تأويل فاسد ومضلّل للدستور لينصب نفسه القديس الأكبر"، على حد تعبيره، مضيفاً أنّ "هناك شعباً لن يستسلم لنزعات التسلط والحكم الفردي ودعوات الانقلاب والارتداد التي استبدت بقيس سعيد ..".
سعيّد ومشروع التفرّد بالحكم
وألمح الرئيس سعيّد منذ حملته الانتخابية إلى رغبته في تعديل نظام الحكم الحالي من برلماني معدل تمنح فيه صلاحيات تنفيذية واسعة لرئيس الحكومة، إلى نظام رئاسي بدعوى الحد من تشتت السلطات، غير أنّ حركة النهضة عارضت هذا المسعى، وفضلت الذهاب إلى نظام برلماني صرف.
ويعتقد المحلل السياسي بولبابة سالم في حديثه لـTRT عربي، أنّ سعيّد يحمل نزعة نحو التفرّد بالحكم، وأنّ كل الخطوات التي اتخذها منذ توليه الرئاسة، وكل التصريحات تؤكد ذلك، فقد أراد دائماً أن تكون له يد في كل مواقع القرار، وفي القصبة (الحكومة)، وفي باردو (البرلمان).
وأكد سالم أنّ الرئيس يسعى إلى العودة بتونس إلى عهد الحاكم المطلق، وإلى مرحلة التفرّد بالحكم والاستبداد، لافتاً إلى أنّه وجد من "يطبّل" له من بعض القوى العاشقة للدكتاتورية والحكم الاستبدادي.