"لو انسحبت تركيا من سوريا فهل سيحل الأمن والاستقرار فيها؟ ولو انسحبنا من ليبيا فهل سيتراجع الانقلابيون ويسلمون السلطة للحكومة الشرعية مباشرة؟ ولو تجاهلت تركيا وجود الإرهابيين قرب حدودها، فهل سيتطهر شمال العراق منهم؟". بهذه العبارات لخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طبيعة دور بلاده في المنطقة ودوافعها، والأهم من ذلك أنه فند الادعاءات حول "مطامع تركية" أو التدخل بقصد الهيمنة والاستئثار بالموارد.
ودأب الإعلام التابع لبعض الأنظمة العربية المناوئة لتركيا على ترويج ادعاءات كثيرة حول تنامي الدور التركي في بعض البلدان العربية، لا سيما في سوريا والعراق وليبيا، حيث يشارك أو يشرف الجيش التركي على عمليات عسكرية خارج الحدود. وبينما تتعدد تلك الادعاءات فإن أبرزها ذلك الذي يضع تركيا في خانة القوى الإقليمية التي تحمل مشاريع هيمنة وإخضاع للشعوب، وهو اتهام يرى العديد من الخبراء أنه يتناقض مع الواقع.
وبات دور تركيا المتنامي في السنوات الأخيرة بالمنطقة العربية ظاهرة ملحوظة، إلا أنه يأتي في سياق إقليمي ودولي متغير يملي على أنقرة مقاربة جديدة في صون مصالحها المشروعة، سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو الاقتصادي.
وباتت المقاربة التركية تميل مؤخراً إلى دور عسكري فاعل بموازاة الدور السياسي والدبلوماسي.
الانتقال إلى القوة الخشنة
ويرى خالد الحرمي، محلل سياسي ورئيس مركز مينا للأبحاث في واشنطن، أن الدور التركي في المنطقة مر بعدة مراحل، من أهمها "انتقاله من مرحلة القوة الناعمة ما بعد ثورات الربيع العربي إلى تبني القوة الخشنة وكان لهذا الدور تحديات كبيرة".
ويضيف الحرمي في حديث مع TRT عربي: "الدور الناعم الذي كانت تقوم به تركيا عبر السنوات الماضية مثل صنع الجسور وحل الخلافات والدخول لعمل تسويات بالمنطقة كان مفهوماً لأن طبيعة المنطقة تغيرت وكانت لدى تركيا رؤية في التعامل مع التحديات".
من جهته، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي العراقي إياد الدليمي، أن تركيا نفسها في خضم منطقة تمور بالكثير من التحديات، بخاصة في أعقاب اندلاع ثورات الربيع العربي التي وجد بعض القوى فيها أرضية مناسبة للتدخل لتحقيق مصالحها المختلفة.
ويوضح أنه "ما كان من تركيا إلا أن تأخذ هي الأخرى بزمام الأمر لحماية مصالحها في المنطقة، بخاصة أن لها مصالح كبيرة في هذا الشرق المليء بالتدخلات. تركيا مثلها مثل أي قوة أخرى تريد أن تضمن لنفسها مكاناً في منطقة تبدو في حالة سائلة وقابلة للتغيير، ولا أعتقد أن ما يكون حلالاً لغير تركيا يكون حراماً عليها".
"لا ننسى أن تركيا اليوم تختلف عن تركيا الأمس، فهي قوة صاعدة لديها الكثير من المقومات التي تساعدها لحماية مصالحها وتشكيل نفوذ في هذه المنطقة" كما يرى الدليمي في حديث مع TRT عربي.
وحول الهواجس التي تدفع إلى تنامي الدور التركي مؤخراً، يؤكد الكاتب والباحث السياسي السوري فراس فحام أن للتدخلات التركية دوافع أمنية واقتصادية في كل من سوريا والعراق وليبيا.
فوفقاً لفحام، "تشكل الأوضاع في سوريا والعراق تهديداً للأمن القومي التركي على اعتبار أن هناك انتشاراَ لتنظيمات إرهابية، وبالتالي قررت تركيا أن توسع نطاق عملياتها العسكرية خارج الحدود والعمل على ضرب منابع التنظيمات في جبال قنديل وشمال شرق وغرب سوريا".
لذلك، حسب ما أفاد به فحام لـTRT عربي، لاحظنا أنه منذ عام 2016 بدأت تركيا تستخدم القوة العسكرية ضد هذه التنظيمات في مناطق خارج الحدود التركية.
خصائص الدور التركي
للدور التركي في المنطقة العربية سمات وخصائص تميزه عن دور الدول الإقليمية الأخرى الفاعلة، وفقًاً للمحلل السياسي القطري خالد الحرمي، الذي شرح رأيه بالقول إن "القوى الكبرى في الشرق الأوسط باعتقادي هي تركيا وإيران وإسرائيل. الدول العربية أغلبها لا يستطيع أو لا يرغب في أن يلعب دوراً، بما في ذلك مصر".
ويصنف الحرمي دور كل من الدول الثلاث في المنطقة ضمن ثلاثة نماذج، الأول وصفه بـ"الدخول من الباب" وهو ما ينطبق على السياسة التركية، والثاني هو "الدخول من الشباك"، وهو ما يصف السياسة الإيرانية، والثالث هو "الدخول من النوافذ الخلفية أو الشقوق"، وهو طبيعة السياسة الإسرائيلية.
ويوضح ذلك بالقول: "إذا قارنا بين الدول الثلاث، فإن الدور التركي لا يزال يستطيع الدخول من الباب وأن يقيم علاقات مع الدول وسط قبول شعبي. وذلك مثل العلاقة مع قطر وتوقيع اتفاقية عسكرية معها إثر الأزمة الخليجية، وأيضاً في ليبيا حيث أبرمت الاتفاقات مع حكومة لها قاعدة شعبية".
ويضيف: "هذا عكس الدول الأخرى، إذ تدخل إيران باعتقادي من الشباك، لأنها تخاطب جماعات موالية لها، ولا تستطيع الذهاب إلى رأي عام وإقناعه برؤيتها ومنطلقاتها".
"في حين أن إسرائيل تدخل من النوافذ الخلفية أو حتى من الشقوق الموجودة في جدران البيوت". ويرى الحرمي أنه لقضية الاحتلال والصراع بين العرب والإسرائيليين لا تستطيع إسرائيل أن تسوّق نفسها، بل ثمة مصالح تستطيع أن تصنعها مع بعض الدول على غرار اتفاقيات التطبيع الأخيرة، والتي تحظى على المستوى الشعبي برفض كبير.
تركيا وشعوب المنطقة
تحاول تركيا دائماً الدفع باتجاه تعزيز الحكم المدني ودور المؤسسات وتبتعد عن إثارة القلاقل ودعم حركات تمرد أو حركات انفصالية، بعكس بعض الدول الأخرى مثل إيران والإمارات، كما يقول الكاتب والباحث السياسي فراس فحام، الذي يؤكد أن هذه العناصر في السياسة الخارجية التركية أدت إلى ظهور تقاطعات كبيرة بينها وبين والشعوب العربية.
ويرى فحام أنه بمراجعة الدور الذي تلعبه تركيا واصطفافاتها سواء في سوريا او ليبيا او العراق سنجد أنها تصطف مع الخيارات القريبة لشعوب تلك البلدان، ففي سوريا تقف تركيا ضد نظام الأسد وتقيم تحالفاً مع المعارضة السورية. وفي ليبيا كانت الداعم الأساسي لحكومة الوفاق التي واجهت جنرالاً انقلابياً هو اللواء خليفة حفتر وساهمت في الحفاظ على الحكم المدني.
أما في العراق، وفقاً لفحام، فقد "حاربت تركيا التنظيمات الإرهابية هناك، والدور التركي غير مرحب به من المليشيات الطائفية".
ويتفق رئيس مركز مينا للأبحاث في واشنطن خالد الحرمي مع هذا الرأي، قائلاً إن الدور التركي عند مقارنته بأدوار الدول الأخرى لا يزال فاعلاً على المستوى الشعبي، ولا يزال يمتلك الحضور والقبول.
ولفت في المقابل إلى أن هذا الدور "يُهاجَم اليوم، وخصوصاً من الدول التي تتبنى الثورة المضادة، وهي الدول التي لا تؤمن بالديمقراطية ولا تفعيل الجانب الشعبي أو سماع الرأي العام". وأضاف: "لا ترغب هذه الدول بالنموذج التركي لكونه يضم جزءاً كبيراً من ذلك، ولأنها لا تستطيع أن تحتويه".
ويقول الكاتب والمحلل السياسي العراقي إياد الدليمي إن العراقيين بالمجمل لا ينظرون إلى الدور التركي في بلادهم نظرة تشبه نظرتهم إلى الدور الإيراني السلبي والمرفوض، فتركيا في نظر أغلب العراقيين دولة تحترم العراق وتربطها به علاقات تاريخية متينة ولا تنظر إلى العراق على أنه تابع لها كما الحال بالنسبة إلى إيران.
ورأى أن "تركيا بحاجة إلى أن تفعل حضورها في العراق بخاصة في المجالات الاقتصادية والثقافية والتجارية، وهي لديها القدرة على كسب مودة الشعب العراقي من خلال تفعيل قواها الناعمة".