ولئن كانت الاحتجاجات المطلبية هي أبرز السّمات التي رافقت التحوّلات التي شهدتها تونس منذ اندلاع الثورة في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2011، فإن المستجد طرأ هذه المرة على مستوى شكل التحرك الشعبي في العديد من المحافظات.
وفي وقت سابق من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تمكنت حكومة هشام المشيشي عبر منهج الحوار المباشر، من التوصل إلى حلّ نهائي لملف ''الكامور''، وهي منطقة تقع في محافظة تطاوين بالجنوب التونسي وتضم أكبر محطة ضخ للبترول بالصحراء التونسية. وسبق أن وقع تعطيلها في أكثر من مرة من محتجّي المنطقة الذين يتنظّمون تحت ما يُسمى بـ"تنسيقية الكامور'' ويطالبون بالتنمية والتشغيل، مما كبّد الدولة التونسية عشرات المليارات.
الحوار واشتعال الاحتجاجات
منهج الحوار المباشر مع المحتجين الذي اتبعته الحكومة، والإجراءات التنموية التي أقرتها لفائدة محافظة تطاوين، عوامل أخمدت الاحتقان في هذه المنطقة لكنها أشعلت فتيل الاحتجاجات في عدّة محافظات أخرى، وتوقف معها الإنتاج في أكثر من مؤسسة حكومية، وأيقظت الإضرابات القطاعية، وغذّت النعرات الجهوية (القبلية)، وبرزت هذه المرة أيضاً ''تنسيقيات'' تؤطر وتقود الاحتجاجات الشعبية وهي المستجد الأبرز على الساحة.
واِكتسبت هذه التنسيقيات سلاح تعطيل الإنتاج (النفط والغاز والفوسفات وحتى منابع المياه)، وغلق الطرقات وإغلاق المؤسسات الحكومية للضغط على الحكومة، وأصبحت كل محافظة ترفع ''راية'' مطالبها الخاصة بأحقيّتها في ثروات الأرض، وبأولوية مواطنيها بالتشغيل قبل مواطني المحافظات الأخرى، وهو ما جعل العديد من التونسيين يدقون ناقوس خطر التفكك الاجتماعي.
الوزير السابق ومدير المعهد العربي للدراسات وأستاذ علم الاجتماع مهدي المبروك، اعتبر في حديث لـTRT عربي أن الحركات الاحتجاجية في البلاد تستند إلى ذاكرة تاريخ تونس الحديث، وذلك تعليقاً على اقترانها سنوياً بهذه الأشهر.
وقال المبروك: ''عادة ما نشهد خلال شهري ديسمبر/كانون الأول وجانفي/كانون الثاني جلّ التحركات التي عرفتها تونس الحديثة، ولا ننسى ذكرى الثورة هذه الأيام، وبالتالي هناك نوع ممَّا نسميه بذاكرة الاحتجاج التي تتأجج بشكل دوري في مثل هذه الأشهر''.
الأسباب الموضوعية لتجدد الاحتجاجات
وأرجع الاحتجاجات ''إلى الأسباب الموضوعية الهيكلية على غرار تفاقم البطالة، وضعف المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار وتهميش عديد الفئات الاجتماعية والمناطق الداخلية''، لافتاً إلى أن ''هذه الأسباب ليست وليدة اليوم ولكن السياقات العامة وإخفاق الحكومات جعل لهذه الاحتجاجات أسباباً موضوعية تتراكم من سنة لأخرى. علاوة على فشل انتخابات 2019 في أن تكون حلاً يضع حدّاً للتجاذب السياسي بين عائلات سياسية تصنّف نفسها على أنها حداثية وعائلات أخرى، أضف إليها خطاباً شعبوياً لرئيس الجمهورية وعجزه أن يكون محاوراً لبعض خصومه، ممَّا خلق أجواء ومناخات موضوعية للاحتجاج''.
ويعتقد أستاذ علم الاجتماع أن رفض رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ التحاور المباشر مع المحتجين، وتصريح رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي ورئيس البرلمان حول تعميم نموذج الحوار مع محتجي الكامور في مختلف المناطق، أجّجا الاحتجاجات التي ارتفعت بعد خطاب المشيشي بنسبة 350%، والتي بدورها تنقسم إلى ثلاثة: احتجاجات قطاعية على شاكلة احتجاجات المهندسين والأطباء وإضراب القضاة الذي تجاوز الشهر، ثم احتجاجات الجهات المحرومة وأخيراً احتجاجات الأطراف المتضررة.
كما اعتبر الوزير السابق أنّ هناك عدة أطراف مستفيدة من هذه الاحتجاجات، ومن عودة وتغذية النعرات الجهوية والنزعات القبلية التي طفت على السطح حتى داخل "العرش" أو "القبيلة الواحدة''، وأعرب عن خشيته من ''أن تتوسّع باعتبار أنها تبقى الملاذ الرمزي الهوياتي في المخيال الشعبي عندما تضعف الدولة رغم تفتت البنى القبليّة''، مقراً بأنها ''نزعة لم تكن منتظرة ولكنها قد تعود في سياق ضعف الدولة الوطنيّة''.
واندلعت مؤخراً مواجهات شعبية بمنطقة "عين السخونة" بالجنوب التونسي بين "المرازيق" من منطقة دوز التابعة لمحافظة قبلي و"الحوايا" من منطقة بني خداش التابعة لمحافظة مدنين، وخلفت خسائر مادية وأسفرت عن سقوط ضحيتين، وذلك بسبب قطعة أرض متنازع عليها. ووصفت هذه الاشتباكات بـ''القبلية''.
الجهوية والقبلية إلى الواجهة من جديد
وفي هذا الإطار قال مهدي المبروك إنه إبان بناء الدولة الوطنية الحديثة (بعد الاستقلال) تمّ إخضاع القبائل ومصادرة أراضيها، وتحويلها إلى ممتلكات الدولة تحت اسم "الأراضي الدولية الاشتراكية" دون البت في كيفية استغلالها، واعتبر أن الإصلاح الزراعي ملف وجب فتحه وإعادة الأراضي إلى أهلها وفق ما يقتضيه القانون لتثمين أراضيهم واستغلالها، لأن الدولة لم تكن تمتلك تلك الأراضي قبل الستينيات.
وخيّم مؤخراً شبح ''الهرب الأهلية''، وتم تداول هذا المفهوم بشدة، خاصة بعد الاشتباكات في الجنوب التونسي التي تتزامن مع احتقان الوضع الاجتماعي وارتباك المشهد السياسي، لكن الأستاذ مهدي المبروك يرى أن الحرب الأهلية هي نتيجة استقطاب حاد بين مكوّنين أو ثلاثة، وهو ليس الحال في تونس اليوم.
وذكّر بأن مثل هذه الأحداث حدثت في تسعينيات القرن الماضي وفي سنة 2012 بمنطقة المتلوي بمحافظة قفصة وتعتبر محدودة، واستدرك بالقول: ''لكن يجب الحذر منها والتعاطي الجدي معها، وعلينا تجنّب استعمال مثل هذه الكلمات فهي عنف حضري يتمثل في عدم قدرة المدينة أو الدولة على إدماج ساكنيها وتهميشهم''.
من جانبه، قال الكاتب الصحفي والمحلّل السياسي صلاح الدين الجورشي في حديث لـTRTعربي: "إن الوضع الاجتماعي في تونس اليوم محتقن ومتعدّد المجالات ويكاد يشغل معظم الشرائح الاجتماعية، وهو نتيجة عدم وفاء الحكومات المتعاقبة بعد الثورة بوعودها في المجالات التي تهمّ المواطن في العمق''.
واعتبر أن أسباب هذا الوضع الاجتماعي متعددة، وتأتي في مقدمتها البطالة التي ارتفعت نسبها بشكل مزعج، وغلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية للمواطن، وكذلك مواصلة تهميش الجهات الداخلية للبلاد ووصول حالها إلى وضع مقلق، علاوة على تقليص مكاسب مدن الساحل والمركز وتراجع خدماتها وهو ما هيّأ لحالة غضب جماعي.
وبيّن الجورشي أن تونس تتشكل تاريخياً من عدّة أطراف اجتماعية من بينها البعد القبلي، وقال في هذا الصدد: ''البعد القبلي عميق في تونس رغم أن الدولة الوطنية تمكنت من تقليص هذا العامل دون القضاء على الشعور بالانتماء القبلي، فالقبيلة تاريخياً عندما تتعرّض لعمليّة تقليص في مكاسبها أو تهديد لوضعها الاجتماعي تتحركّ بشكل جماعي وتعبّر عن مطالبها بشكل أقلّ من الدولة، وتعبّر عن وجودها وغضبها على مستوى قبلي''.
كما اعتبر أن ما حصل في تونس هو نتيجة وضع اجتماعي وغياب لرؤية تنموية شاملة، ما جعل الحس القبلي الكامن والمختفي يبرز فجأة، خاصة إذا تعلّق الأمر بالثروات الباطنية والأراضي المشتركة.
ومضى قائلاً: ''عند الحديث عن الثروة وعن أي مكسب اقتصادي، ينتقل الخلاف من مجاله العادي والمدني إلى مستواه القبلي والجهوي. وهذا مؤشر سلبي وخطير ويمسّ وحدة الدولة ويهدّد الوجود الجماعي، وعلى السلطة هنا أن تسرع في اتخاذ الإجراءات الضرورية لطمأنة هذه الوحدات الاجتماعية والتأكيد أنها جزء من المعادلة، وذلك بتثبيت حقها الدستوري في امتلاك الثروة التي يتمتع بها الجميع''.
ويرى الجورشي أن هذه الاحتجاجات المطلبية هي بالأساس عفوية شعبية تنطلق من واقع اقتصادي واجتماعي يدعو إلى الغضب والاحتجاج، مستدركاً بالقول: ''لكن عندما تنفجر هذه الدوافع الطبيعية تتدخلّ عوامل إضافية أخرى لتستثمر في الأحداث وتضخمها وتحاول أن تحقق من وراء ذلك مكاسب شخصية، ومن بين هذه الأطراف نجد الأحزاب السياسية والنقابات التي تتولى التعبير عن هذا الاحتجاج بشكل منظم، واللوبيات وأصحاب المصالح في ميدان ما والتي تعزز دورها بعد الثورة ، لكن الخطير يتمثل في تدخّل الجهات الأجنبية لتغذية تلك النزاعات''.
وأقرّ المحلل السياسي بأن السلطة السياسية يمكن أن تدفع في اتجاه تغذية النعرات الجهوية والعروشية من خلال تأخرها في معالجة المشاكل والقضايا المطروحة، كما أنها لم تحاول تفكيك هذه الملفات ودراستها وتقديم الحلول الضرورية لإعادة وحدة المجتمع، مشيراً إلى أن ''المجتمع ثار على الدولة من قبل لاستعادة هذه الدولة وإخراجها من نطاق خدمة أصحاب المصالح إلى دولة الجميع، ذلك أن التونسيين يتوقون إلى أن تكون هذه الدولة في خدمتهم ولا تكون وسيلة لإثراء وتدعيم نفوذ أقلية اجتماعية موجودة في البلد''.
"الحرب الأهلية" استخدام مبالغ فيه
وبخصوص الاشتباكات سالفة الذكر، قال الكاتب الصحفي: ''إنها عيّنة لما كنا نذكره، وهي تبدو صغيرة في البداية وتتطور لتثير التساؤل ويترجم ذلك التساؤل إلى غضب، ثم ينتقل إلى حركة اجتماعية واسعة يكون العامل القبلي هو المحدد لها من خلال الشعارات التي ترفع، ليتحول الصراع إلى تهديد أمني له تداعيات خطيرة على استقرار البلاد، والذي يمكن اعتباره بداية حرب أهلية على نطاق ضيق''، وفق تقديره.
وعن فرضية تحوّل مثل هذه الاشتباكات إلى حرب أهلية، مثلما حذّر البعض، أكد أنه في حال استمرار حالة الغضب وتأخر الحلول العاجلة من قبل السلطة، وإذا لم يتضامن المجتمع المدني ويلعب دوره على أكمل وجه، ولم تتخذ الأحزاب السياسية موقفاً وطنياً، فإن هذا الوضع الذي يبدو تحت السيطرة يمكن أن يتحول في لحظة فارقة إلى صراع كبير، تعجز السلطة عن التحكم فيه ويمكن أن يؤدي إلى الانزلاق إلى حالة عنف واسعة، بحسب تعبيره.
ونبّه الكاتب الصحفي والمحلل السياسي من ''خطورة وجود عمليات شحن سياسي وأيديولوجي وقبلي وجهوي متواصل ودون ضوابط، ممَّا قد يكسر منظومة العيش المشترك بين مواطني البلد الواحد، وسيطرة منطق الحرب الأهلية الضيقة القابلة للتوسع والانتشار''.
أما الكاتب والمحلل السياسي صغيّر الصالحي، فقد وصف في حديث لـTRT عربي، الوضع الاجتماعي في تونس بـ''المتأزم على وجهات مختلفة''، ومن سماته الكبرى الفقر الذي جاوز مليوني شخص، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل لنحو مليون عاطل مع انقطاع عن التعليم بنحو مئة ألف تلميذ كل سنة، وارتفاع في أعداد الهجرة غير النظامية.
وقال الصالحي إن الأزمة في تونس تعدّ ''أزمة هيكلية وعميقة في غياب تصورات واضحة للسياسات والمؤسسات الرسمية للدولة، لأن ايجاد حلّ لهذه الأزمة يطرح مشكلة مراجعة البنى والعلاقات الاجتماعية والعلاقات الاقتصادية، وبوجود مراكز نفوذ تقاوم أي تغيير محتمل وأطروحات سطحية للنخب والسياسيين''.
ولفت المحلل السياسي إلى أنه قد تنبّأ بمثل هذه الأحداث سنة 2017، حيث كان قد توقع أن تقوم الجهات بوضع يديها على مواطن إنتاج الثروة وطرق تنقلها، نتيجة لتطوّر الوعي الجمعي لمواطني هذه الجهات المحرومة، مضيفاً أن المسألة "تراكمية في ظل تخاذل الدولة في إيجاد حلول للأزمة باعتبار أنها لم تمس مصالحها الحقيقية مثل ما حدث اليوم".
وأبرز في الإطار ذاته أنه من الطبيعي والمنتظر أن يتطور وعي هذه الفئات الشعبية في لحظة من اللحظات لتنتفض ضد ممارسات الدولة لتغيير عنصر من عناصر المعادلة.
وبشأن الاشتباكات المجتمعية، أرجع الصالحي الأمر إلى تخاذل الدولة في حلّ مسألة الأراضي الاشتراكية، واعتبر أنه ''ربّما كان خياراً اتخذته الدولة لأن الأرض عادة ما تكون أهمّ عامل في المحافظة على البنية القبلية. وبإرجاع الأراضي لأهلها ستتعزّز الدورة الاقتصادية في تلك المناطق، وبتعزّزها ستتغيّر التعادلات الاجتماعية والسياسية، وهذا ليس في مصلحة الدولة''، على حدّ قوله.
واستبعد الكاتب والمحلّل السياسي وقوع حرب أهلية في تونس، ولاحظ أن ''البعض يقوم بتهويل الأحداث بإعطائها حجماً يفوق حجمها الحقيقي للبحث عن منفذ لقمع الأصوات الشعبية''، لكنه لم يستبعد أن ''تتبلور هذه المطالب الجهويّة لتتّجه نحو المأسسة وإضعاف السلطة المركزية والمطالبة بتشكيل أقاليم''.