منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يواجه الفلسطينيون في الضفة الغربية عنفاً إسرائيلياً مزدوجاً، يتمثل في فرض قيود شديدة على التنقل بين المدن، وإطلاق يد المستوطنين لمهاجمة وقتل وإرهاب المزارعين والأهالي داخل القرى والبلدات الفلسطينية.
هذه الانتهاكات الإسرائيلية ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة مع إقرار حكومة نتنياهو المتطرفة تسليح المستوطنين، وتشريع قتل المواطنين الفلسطينيين، وذلك بالتزامن مع توجه المزارعين الفلسطينيين لجني ثمار الزيتون في أراضيهم، إذ تصل المساحات المزروعة بأشجار الزيتون إلى 575 ألف دونم، ويشكل هذا الموسم "طاقة الفرج" أو "مطمورة العام" كما هو متداول بين العائلات الفلسطينية في إشارة إلى أهميته الاقتصادية.
الذهب الأخضر قوة اقتصادية
محصول الزيتون هو واحد من أهم سُبل العيش للمزارعين الفلسطينيين في الضفة الغربية، إذ ينتج الفلسطينيون ما يقارب 33 ألف طن من زيت الزيتون في السنوات الوفيرة، ويمثل ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني، كما يعتبر من أهم عناصر الأمن الغذائي.
ويشكل موسم الزيتون مصدر رزق لـ80- 100 ألف أسرة فلسطينية، كما يوفر فرصة عمل موسمية لآلاف المواطنين، سواء بالعمل في المعاصر أو القطاف أو استصلاح الأراضي وتأهيلها، إضافةً إلى العمل في التخزين والتعبئة وأعمال البستنة.
وتتصدر محافظة جنين قائمة المدن الفلسطينية من حيث المساحات المزروعة بالزيتون، إذ تُقدر بأكثر من 15 ألف دونم.
وتتجلى أهمية موسم الزيتون في بلدة حوارة جنوب نابلس، ويقول المواطن سامر عودة إنه "كان وما زال مصدر دخل لكثير من العائلات في بلدتنا، سواء بالعمل بأرضهم أو بضمان أراضي المزارعين الآخرين".
ويبين عودة لـTRT عربي، أن الشجرة الواحدة تنتج ما يقارب 130 دولاراً، ويقوم البعض ببيع هذا الزيت لدفع تكاليف الأقساط الجامعية أو غيرها من مستلزمات الحياة.
ومن قرية قريوت، تحدثت السيدة جهينة محسن لـTRT عربي عن الأهمية التي توليها وعائلتها لأراضيهم العامرة بأشجار الزيتون الرومية والعثمانية، مؤكدة أن "ما تعنيه ثمرة الزيتون وزيتها ليس المنفعة الاقتصادية فحسب، بل هي الحقيقة الراسخة في وعي الأجيال الحديثة عن ارتباطاتهم الاجتماعية، والتاريخية التي تناقلوها عن أجدادهم".
بدوره يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور نائل موسى أن نمو قطاع الزيتون يشهد تراجعاً؛ جراء ما يتعرض له المزارعون الفلسطينيون من تصرفات عدوانية من قبل المستوطنين.
ويضيف موسى لـTRT عربي، أن الصعوبات المتمثلة في عدم القدرة على رعاية وتقليم وحراثة الأراضي، تؤدي إلى تراجع حاد في إنتاج الزيتون، وهو ما يساهم في تدني المستوى المعيشي للمزارعين، وخسارة جزء مهم من الإنتاج الوطني الفلسطيني.
اعتداءات على المزارعين
استغلَّ المستوطنون الإسرائيليون حالة العدوان على قطاع غزة وقوانين الطوارئ، ونفذوا سلسلة من الاعتداءات العنيفة والمسلحة ضد المزارعين، وصرَّح رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الوزير مؤيد شعبان، أن "أنشطة الفلسطينيين انحسرت هذا الموسم إلى الحدود الدنيا، نتيجة إرهاب دولة الاحتلال ضد المزارعين".
وأضاف شعبان لـTRT عربي: "لعل أبرز أحداث الاعتداءات التي شهدها المزارعون استشهاد المواطن بلال محمد صالح في قرية الساوية برصاص مستعمرين إسرائيليين أثناء قطف ثمار الزيتون، إضافة إلى 40 عملية إطلاق نار، وتهديد بالأسلحة تعرض لها المزارعون، و55 عملية اعتداء جسدي وترهيب، و31 عملية منع وصول إلى الحقول والمزارع، و38 عملية طرد من الحقول، و29 عملية سرقة محاصيل".
ويبيَّن شعبان أن المستوطنين قد نفذوا -بدعم قوات الاحتلال- خلال الموسم الأخير، 126 عملية اعتداء على الأراضي المزروعة بالزيتون، منها 37 عملية قطع وتكسير وتجريف أراضٍ مزروعة بالزيتون، أدت إلى تخريب ما مجموعه 3852 شجرة زيتون، تركزت في محافظات نابلس والخليل وسلفيت.
وحول الخطورة التي واجهتها مع عائلتها أثناء جني محصول الزيتون، قالت السيدة جهينة: "طوال حياتي لم أشهد مثل هذا الموسم، أراضينا تقلصت وأشجارنا سُرقت أمام أعيننا، وما عاد لنا تمييز الجندي من المستوطن، لغتهم جميعاً أصبحت السلاح والقتل المباشر".
وتتابع حديثها: "بين الحذر والخوف وترقب ما يمكن أن يحل بنا، توجهنا إلى أراضينا، إلا أننا تفاجأنا بثلاثة مستوطنين مسلحين أطلقوا الرصاص الحي نحونا بشكل مباشر، وسلَّطوا كلابهم علينا ثم سرقوا ما جرى جنيه من المحصول".
غطاء لهجمات المستوطنين
وحول ما إنْ كانت هجمات المستوطنين تنطوي على أهداف أيديولوجية، يؤكد شعبان أنَّ "عنف المستوطنين مدفوع من المؤسسة الرسمية، لأنه يؤدي ويحقق ما لا تستطيع المؤسسة الرسمية تنفيذه، فالحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التي يقودها بنيامين نتنياهو لديها أجندة واضحة لضم الضفة الغربية، والناتج عن ذلك أن عنف المستوطنين يخدم أجندة الدولة الرامية إلى فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة".
ويضيف شعبان أن "المؤسسة الرسمية تتجنب أن تنفذ عمليات ترحيل قسري نظراً للملاحقات القانونية، باعتبار الترحيل القسري يرتقي إلى مستوى جريمة الحرب حسب المنظمات الدولية"، لافتاً إلى أن مليشيات المستوطنين الآن تتولى عمليات فرض البيئة القسرية الطاردة للتجمعات، من خلال التهديدات والاعتداءات العنيفة والطلب منهم بشكل واضح مغادرة هذه الأماكن.
ووفقاً للوزير شعبان، فإن انعدام الأمن الذي تحاول أن تبثه حكومة الاحتلال من خلال مستوطنيها، يندرج في إطار فرض البيئة الطاردة، فالحرمان من مصادر المياه، ومن مصادر الرعي للتجمعات البدوية، وإغلاق الطرق، ومحاصرة البلدات بالبؤر الاستعمارية التي أصبحت مرتعاً للعصابات المتطرفة والمسلحة، وإطلاق النار على المدنيين وحرق المباني، تشكل مجموعة من مظاهر البيئة القسرية، التي تؤدي إلى إفراغ الأرض.
وحول سياسة مصادرة الأراضي، يشير شعبان إلى أنه بالمعنى الإسرائيلي للاحتلال "الأرض الفارغة لقمة سائغة"، ومن هنا يعتبر الصراع مع الاحتلال هو في منع تفريغ الأرض، وفي تثبيت المواطنين في الأرض؛ لأن ضمانة الحفاظ على الأرض هو في بقاء المواطنين ودعم صمودهم فيها.
ثقافة الإفلات من العقاب
رغم وجود أدلة دامغة على إطلاق المستوطنين النار على المزارعين العُزل في أراضيهم ومن مسافات قريبة، فإن الشرطة الإسرائيلية المسؤولة عن تنفيذ القانون واحتجاز المستوطنين الذين ثبت ضلوعهم في أعمال العنف، لا تجري تحقيقات جنائية في هذه الهجمات، وتكتفي بإحالة المسؤولية إلى الجيش المنتشر بكثافة في مناطق الضفة الغربية.
وحول ذلك، يفيد شعبان بأن "قادة مليشيات المستعمرين الإرهابية هم من وصلوا إلى سدة الحكم في حكومة الاحتلال، بمعنى أن المستعمرين لديهم من يشرعن سلوكهم ويحميهم ويقدم لهم الحصانة أمام المحاكم، وهو ما جرى التحذير منه مراراً".
ويشير إلى أن التصريحات المتطرفة والفاشية الصادرة عن مسؤولي حكومة الاحتلال الإسرائيلي وتحرض على قتل الفلسطينيين، كشفت عن الوجه الحقيقي والبشع لدولة الاحتلال، إذ لم تعدّ تمارس حملات العلاقات العامة وغسيل الوجه الذي مارسته على مدى عقود طويلة.
ويردف شعبان بالقول: "في الحقيقة، لدينا كثير من الشواهد، بل كل الشواهد، في كيفية تواطؤ محاكم الاحتلال في الإفراج عن القتلة وعن المجرمين، ولدينا كل الشواهد في كيفية تجنب محاكم الاحتلال تقديم تهم لمرتكبي الجرائم من المستوطنين، في تبادل حقيقي وواضح للأدوار بين المؤسسة الرسمية والقانونية تحديداً في مسألة عنف وإرهاب المستوطنين".
إغلاق شامل وحصار اقتصادي
وتواجه محافظات الضفة الغربية حالة من العزل والإغلاق الشامل بعد إطلاق الفصائل الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" رداً على اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وقد نتج عن هذا الإغلاق ضغوطات اقتصادية بعد إعاقة ممارسة الفلسطينيين لأعمالهم التجارية، ومنع العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر، وإجبار أصحاب المحال التجارية على إغلاقها.
كما أنَّ اقتطاع الحكومة الإسرائيلية مبالغ من أموال الضرائب (المقاصة) التي يجري تحويلها إلى السلطة الفلسطينية -بذريعة أن جزءاً منها يُحوَّل إلى قطاع غزة لدفع رواتب الموظفين-، دفع الحكومة الفلسطينية إلى إصدار قرار بعدم استلام هذه الأموال منقوصة، وبذلك تضاعف العبء الاقتصادي على المواطنين الفلسطينيين بسبب عدم صرف الرواتب.
ورغم الهدنة المؤقتة التي دخلت حيّز التنفيذ يوم الجمعة 24 من نوفمبر/تشرين الثاني، بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، إلّا أنها لم تمنع جيش الاحتلال الإسرائيلي من مواصلة عمليات الاقتحام والاعتقال في الضفة الغربية المحتلة.