تُعرَّف تقنية التوءم الرقمي على أنها نسخة طبق الأصل افتراضية من كائن مادي أو شخص أو آلة أو مؤسسة أو جهاز، يمكن استخدامها لمحاكاة سلوكه لفهم كيفية عمله في الحياة الواقعية بشكل أفضل.
جرى التعبير عن فكرة تكنولوجيا "التوءم الرقمي" لأول مرّة في عام 1991 في كتاب عوالم المرآة، من تأليف ديفيد جيليرنتر، الأستاذ في جامعة ييل الأمريكيّة.
ومع ذلك، تُنسب الأسبقية في تطبيق مفهوم "التوائم الرقمية" على التصنيع إلى الدكتور مايكل غريفز، العضو السابق في هيئة التدريس بجامعة ميشيغان، في عام 2002 ، حين أُعلن رسمياً عن مفهوم برمجيّات "التوءم الرقمي".
ولم يبدأ التطبيق العمليّ للتقنية إلّا بعد ثمانية أعوام، أي في عام 2010، على يد جون فيكرز من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، التي كانت رائدة في استخدام تقنية التوءم الرقمي خلال بعثاتها لاستكشاف الفضاء.
وتقول شركة ماكينزي، وهي إحدى كبريات شركات الاستشارات التقنية في الولايات المتحدة عن التقنية: "تخيّل وجود نسخة رقميّة منك، وبصورة أدق، توءم رقمي لك، يكشف الطبيب على صحة هذا التوءم، ويصف له العلاج، ويراقب مدى فاعليته، وإذا نجح العلاج ولم تكن له آثار جانبية، يوصيك بتناوله".
ليست محاكاة فقط
قبل الخوض في تفاصيل تقنية "التوءم الرقمي" لا بدَّ من توضيح الفرق بينها وبين تقنية مشابِهة هي "المحاكاة"، فَالتوائم الرقمية وعمليّات المحاكاة كلاهما عبارة عن محاكاة افتراضية، ولكن توجد بعض الاختلافات الرئيسة بينهما.
تُستخدم عمليات المحاكاة عادةً للتصميم أو لفهم آليات عمل نموذج أو التنبؤ، لكنّها تظلّ ذات استعمالات مختلفة عن التوائم الرقمية.
في المحاكاة يُدخِل المصمّمون تغييرات على عمليّات المحاكاة لاختبار سيناريوهات تعتمد فرضية "ماذا لو؟"، أي كيف يمكن لنموذج معيّن الاستجابة لظروف أو قوانين مختلفة.
أما التوائم الرقمية فتُعدُّ بيئات افتراضية معقّدة يمكن التفاعل معها وتحديثها في الوقت الفعلي -أي آنيّاً- وهي أكبر في الحجم والتطبيق.
على سبيل المثال، في عمليّة "محاكاة" قيادة سيارة، يمكن للسائق الحصول على تجربة تدريب قيادة تشبه القيادة الواقعيّة، وتعلّم أجزاء السيارة المختلفة، ومواجهة سيناريوهات مختلفة في أثناء القيادة الافتراضية، لكن هذه السيناريوهات غير مرتبطة بسيارة فعليّة توجد في الواقع.
في المقابل يرتبط "التوءم الرقمي" للسيارة بمركبة حقيقية توجد في الواقع، ويعلم النظام "التوءم" كل شيء عن هذه السيارة، مثل إحصائيات أدائها وتاريخ مكوّناتها واستهلاكها للطاقة والمشكلات المحتملة التي لاحظتها أجهزة الاستشعار، وسجلّات الخدمة السابقة.
استخدامات متعدّدة
ويتطلب إنشاء بيئة رقمية لأي جسم ماديّ جزأين مهمين، الأول بنية تحتية للبيانات، والتي يجري الحصول عليها من مصادر عدّة أهمها المستشعرات المعتمدة على إنترنت الأشياء، التي تنقل المعلومات من "الكائن" أو "الآلة" في العالم الحقيقي إلى النظير في العالم الرقمي.
ويرتكز الأمر الثاني على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تحلّل تلك البيانات وتحولها إلى قرارات ونصائح ومهام.
وهناك أنواع مختلفة من التوءمة، منها توءمة المنتج، التي يشمل التوءم الرقمي بمنتجات في مراحل مختلفة من دورة إنتاجها، وتمتد العمليّة بدءاً من التصميم وصولاً إلى الشكل النهائي، ما يعني الحصول على بيانات مباشرة وفي الوقت الفعلي عن المنتَج كما لو كان في الخدمة.
أحد الأمثلة على توءمة المنتج التي تستخدم بكثافة حالياً هي خرائط "غوغل"، فَهي توءم رقمي لسطح الأرض.
وتسمح هذه الخدمة بربط البيانات في الوقت الفعلي وتقديم معلومات تتنبأ بحركة المرور وتدفّقها للمساعدة في تحسين تنقّلات الناس وتحديد اختياراتهم لوسائل النقل أو الطرق التي يسلكونها.
كما توجد أنواع أخرى من التوائم الرقميّة، مثل توائم مصانع الإنتاج، التي تمثل منشأة تصنيع كامل، أو توائم سلسلة المشتريات والتوريد، وتوائم البنية التحتية مثل حالات الطرق السريعة أو المباني أو ملاعب كرة القدم.
ولعلّ أبرز الأمثلة الواقعية لاستخدام التوءمة الرقمية، هي شركة السفن الإماراتية النيوزلندية، التي اختبر العاملون فيها تصميمات القوارب من دون بنائها فعلياً، وقد سمح ذلك لفريق المشروع بتقييم الآلاف -وليس العشرات فقط- من تصميمات القوارب.
وتركّز كذلك القوات المسلّحة الأمريكية على إنشاء توءم رقمي للفضاء، بما في ذلك نسخٌ طبق الأصل من الأجسام الفضائية والأقمار الصناعية.
كما اعتمدت شركة "سبيس إكس" على التوءم الرقمي عند بنائها لِمركبة الفضاء دراغون، ما أتاح للمشغِّلين مراقبة وضبط المسارات والأحمال وأنظمة الدفع بهدف تحقيق أقصى قدر من السلامة والموثوقية في أثناء النقل.
مستقبل "التوءم الرقمي"
رغم أن تقنية التوءم الرقمي قد طبّقت بالفعل في العديد من الصناعات، فإن الطلب على هذه التكنولوجيا مستمرّ في النمو، ويُتوقّع أن يناهز سوقها 48.2 مليار دولار بحلول عام 2026.
كما قد يسهم التطوير الإضافي للبيانات الضخمة والتعلّم الآلي في الكشف عن القدرات الحقيقيّة لتكنولوجيا التوءم الرقمي في السنوات القادمة.
ولم يأتِ الاعتماد المتنامي لهذه التقنية في مجالات مختلفة من فراغ، فَهناك العديد من الفوائد المرجوّة، منها تقليل الوقت اللازم للوصول إلى السوق، إذ بإمكان التوائم الرقمية أن تسمح بإجراء عمليات تكرار وتحسينات سريعة لتصميمات المنتجات، وذلك بشكل أسرع بكثير من الاختبار الفعلي لكل نموذج أوليّ.
فضلاً عن ذلك، يمكن أن تؤدي التوائم الرقمية إلى تحسينات كبيرة في جودة المنتج، ومن خلال محاكاته طوال عملية التصنيع والاطّلاع على البيانات الآنية، يمكن تحديد عيوب التصميم في وقت أبكر بكثير.
كما يمكن أن تكون توائم المنتج الرقمية مفيدة بشكل خاص في تحسين جهود الاستدامة، إذ سُتساعد المؤسسات على تقليل الموادّ المستخدمة في تصميم المنتج، ما يؤدي إلى تقليل النفايات البيئية.
وتتيح أيضاً المعلومات الآنية التي توفرها التوائم الرقمية إمكانية تحسين أداء المعدّات أو المصانع أو المرافق الخاصة بها، ويمكن التعامل مع المشكلات فور حدوثها، ما يضمن عمل الأنظمة في ذروتها وتقليل وقت التوقف عن العمل.
ومن ذلك أيضاً، توفير عرض مرئي رقمي للمصانع أو المباني التجارية حتى لو كانت مكونة من آلاف قطع المعدات.
وتقوم أجهزة الاستشعار الذكيّة بمراقبة كل مكوّن، والإشارة إلى الصعوبات أو الأخطاء أو مشكلات التصنيع عند حدوثها، وهذا يعني اتخاذ الإجراء اللازم عند أول إشارة إلى وجود مشكلات بدلاً من الانتظار حتى تتعطّل المعدات تماماً أو تظهر عيوب في الإنتاج على مستوى عالٍ.
وبسبب الطبيعة الافتراضية للتوائم الرقمية، فإنها تساهم في مراقبة المرافق والتحكم فيها عن بعد، وهذا يقلّص من الحاجة إلى العنصر البشري، ويعني أنّ عدداً أقل من الأشخاص يمكنهم التحقق من منشآت كبيرة ومن معدات صناعية معقّدة يحتمل أن تكون خطرة.
مجالات عديدة
أمّا المجالات المتوقع أن تدخلها هذه التقنية سريعاًَ فهي عديدة، ففي مجال البناء تقوم مكاتب الدراسة الهندسية بإنشاء توائم رقمية لتخطيط المشاريع السكنية والتجارية ومشاريع البنية التحتية بشكل أفضل، مع تقديم صورة في الوقت الفعلي لكيفيّة تقدم المشاريع الحالية.
أمّا في مجال التصنيع، فيجري استخدام التوائم الرقمية في مراقبة دورة حياة التصنيع بأكملها، بدءاً من التصميم والتخطيط وحتى صيانة المرافق الحالية.
وفي مجال الطاقة، وهو المجال الذي يتوقع تبنّيه لتقنية التوءمة بشدّة، فيمكن استخدامها على نطاق واسع لدعم التخطيط الاستراتيجي للمشاريع وتحسين أداء جميع المرافق.
كذلك دخلت التوءمة قطاع صناعة السيارات، إذ تستخدمها شركات صناعة السيارات لإنشاء نماذج رقمية للمركبات، وهي بهذا تحصل على نظرة عن قدرة هيكل المركبة، بالإضافة إلى النماذج البرمجية والميكانيكية والكهربائية لكل نموذج من العلامة التجارية يجري تطويره.
ومن أهم القطاعات التي يُتوقع أن تدخلها "التوائم الرقمية" قطاع الرعاية الصحية، وسوف تتنوع أشكال استخداماتها.
ويشمل ذلك بناء توائم افتراضية لمستشفيات بأكملها ومرافق رعاية صحية أخرى ومختبرات وأجسام بشرية لنمذجة الأعضاء وإجراء عمليات محاكاة لإظهار كيفية استجابة المرضى لِعلاجات محددة.
مثال ذلك التعاون المشترك بين شركتي سيمنس وإيفِدين الرائدة في صناعة الأدوية لتحسين الإنتاج من خلال حلّ مبتكر يعتمد على نسخة رقمية طبق الأصل من عملية إنتاج الأدوية.
أكبر مشاريع التوءمة
يعمل العلماء في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ (ETH Zurich) على تطوير "توءم رقمي للأرض" للتنبؤ بالأحداث المستقبلية الناجمة عن تغيّر المناخ؛ لمساعدة قادة العالم على الاستعداد بشكل أفضل.
ومن المتوقع أن يتنبأ النموذج الافتراضي للأرض بجميع العمليات "بشكل واقعي قدر الإمكان"، بما في ذلك تأثير البشر في إدارة المياه والغذاء والطاقة والعمليات على كوكب الأرض.
ويعتبر مشروع الكوكب الافتراضي جزءاً من برنامج يسمى (Destination Earth) الذي سيدوم عشر سنوات وهو مدعوم من الاتحاد الأوروبي، وصُمّم لدفع أوروبا لتحقيق صافي الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
وبحسب علماء سيُنشأ نموذج رقمي عالي الدقة للأرض، لرسم خريطة تطوّر المناخ والأحداث المتطرّفة المتوقعة بأكبر قدر ممكن من الدقة في المكان والزمان.