تابعنا
على مدار قرون فُقد العمل العبقري للأدميرال العثماني بيري ريس في مجال الخرائط الجغرافية، حتى اكتُشف جزء منه في عام 1929، وهو الاكتشاف الذي أثبت أن علم رسم الخرائط في الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر كان سابقاً لعصره.

بالنسبة إلى أي مؤرخ مهتم برسم الخرائط، فإن حياة القائد البحري العثماني بيري ريس تشكل دراسة مقنعة للعبقرية البشرية. ونظراً إلى أنه عالم متعدد المهارات، فقد استخدم مهاراته الرياضية غير العادية لرسم خريطة عالمية دقيقة بشكل استثنائي في عام 1513، ممَّا فتح طرقاً ووجهات جديدة للبحارة والتجار والقراصنة.

وطبقاً للمؤرخين فإن ريس كان أول رسام خرائط يقدم وصفاً دقيقاً لأمريكا، إلى جانب بصيرة عميقة حول فكرة الدوران حول إفريقيا في أثناء تقديم عمله للسلطان العثماني سليم الأول.

لكن من المؤسف أن مجمل أعمال ريس فقدت على مر السنين، ويرجع ذلك في الغالب إلى الإهمال البشري. ولكن بعد أربعة قرون عُثر على جزء من خريطة العالم الخاصة به في مكتبة قصر توبكابي في إسطنبول عام 1929، وسرعان ما حظيت باهتمام كبير من كبار رسامي الخرائط في العالم.

وفي العقود التالية بنى الباحثون والأكاديميون الكثير من الأعمال على تقنيات ريس لرسم الخرائط، وهو ما سمح لهم بتحليلات متنوعة ومهمة للملاحة.

واحتفالاً بمساهمته في العلوم البحرية، أعلنت اليونسكو عام 2013 عاماً لبيري ريس، وهو ما مهد الطريق للعديد من المناسبات والاحتفالات في تركيا والعالم لتسليط الضوء على تاريخ عمله وحياته.

كان إسهام ريس في مسائل رسم الخرائط البحرية هاماً في القرن السادس عشر، وهي حقبة البراعة البحرية العثمانية التي لا تُقهر، خاصة في عهد السلطان محمد الثاني، المعروف أيضاً باسم محمد الفاتح، وفي عهد سليمان القانوني.

خلال حكم السلطان محمد بدأت الهيمنة البحرية للقوات البندقية القوية تبدو باهتة أمام البحرية العثمانية التي لا تقهر. وترك النفوذ المتراجع للبحرية البندقية فراغاً في السلطة في غرب البحر الأبيض المتوسط، سرعان ما ملأه الأسطولان الإسباني والبرتغالي.

وقد وُلد ريس في شبه جزيرة غاليبولي في شمال غرب تركيا، وكان الاسم الأصلي لريس هو الحاج أحمد محيي الدين بيري. وكان لديه شغف بتعلم كيفية الإبحار منذ سنوات المراهقة. وقال المؤرخ العثماني الشهير شمس الدين أحمد، المعروف أيضاً باسم كمال بازازاد، ذات مرة إن ريس"ترعرع في المياه مثلما تترعرع التماسيح في غاليبولي".

وقبل تحقيق إتقانه الملاحة البحرية، أمضى ريس معظم شبابه تحت قيادة عمه كمال ريس، وهو بحار معروف في ذلك الوقت. وخاض الثنائي العم وابن الأخ العديد من المعارك البحرية معاً، وخدما أيضاً تحت قيادة القائد البحري العثماني الموقر بربروس خير الدين باشا.

وقد شارك ريس في معارك طويلة وشاقة ضد القوات البحرية الإسبانية والجنوية والبندقية، بما في ذلك معركة ليبانتو الأولى (معركة زونكيو) عام 1499 ومعركة ليبانتو الثانية (معركة مودون) عام 1500. وفي النهاية قاد الأسطول العثماني لمحاربة البرتغاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

ثم في عام 1511 توفي عمه كمال ريس، وعاد إلى غاليبولي لابتكار واحدة من أكثر خرائط العالم دقة في عام 1513.

لقد كانت حقبة شجع فيها السلاطين العثمانيون بحارتهم على رسم الخرائط وحفظ جغرافية المناطق التي اكتشفوها بالتفصيل الكامل، حتى تقلل قياساتهم من الخطأ في تقارير المسارات.

اتبع ريس النصيحة وكتب "كتاب البحرية"، حيث نقل ملاحظاته وخبراته في مجال الملاحة البحرية. وميزت خريطته، ذات الطراز البورتولاني، الأماكن على الأرض التي اكتُشفت بعد قرون. وحملت صوراً تفصيلية ودقيقة إلى حد كبير للخطوط الساحلية وجزر العالم، وذلك في شكل خريطة دائرية مصممة على مركز افتراضي مع تنوع غني في الرسوم التوضيحية. ومثلت الخريطة أيضاً أول سجل خرائط لرحلات كولومبوس المحيطية، وهي ميزة تجعلها من بين أول الأعمال التي أظهرت تيرا أستراليس بالإضافة إلى كونها أول خريطة تصور حيواناتها الفريدة.

واحدة من أكثر الميزات اللافتة للنظر هي أن التفاصيل مماثلة لتلك التي وصفت فقط في الصور الجوية. ويمكن العثور على أكثر العناصر إثارة للاهتمام في تصوير بيري ريس لسواحل أنتاركتيكا، التي يمكن أن تظهر التقنيات الحديثة فقط أنه حصل عليها قبل ظهور بعض الأنهار الجليدية. وهذا يعني أن بعض مصادر بيري ريس تضمنت خرائط رسمت قبل العصر الجليدي.

وكانت رحلاته الاستكشافية إلى مواني بحر إيجة والبحر الأدرياتيكي وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وتونس في أوقات مختلفة، قد أعطته معرفة مباشرة عن جغرافية بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط. وقد استخدم هذا في كتابه وقدم معلومات جغرافية وبحرية مفصلة عن هذه الأماكن، بالإضافة إلى أرخبيل بيلوبونيز وساحل البحر الأدرياتيكي والبندقية وجزر الكناري. وكتب "كتاب البحرية" بين 1521-1525، وتتوفر نسخ من الكتاب في المكتبات الخاصة والعامة في إسطنبول وبرلين ودرسدن وبولونيا وباريس وفيينا ولندن.

وقد طلب الوزير الأعظم إبراهيم باشا في عهد سليمان القانوني نسخة نظيفة من "كتاب البحرية"، الذي أكمله بيري ريس عام 1521، وقُدم إلى السلطان في أثناء رحلته الاستكشافية إلى مصر عام 1524. أما النسخة النهائية فقد قدمها إبراهيم باشا إلى السلطان في 1526، مضافاً إليها قصيدة للسيد مرادي.

رسم بيري ريس كل ميناء على حدة، وزين كتابه بصور المباني المهمة الموجودة في كل منها. وأظهر المناطق الضحلة والشواطئ والمرافئ الآمنة والمنحدرات والموارد المائية والمستوطنات. ويبرز تفرده في كل من الألوان والأسلوب في خرائطه، ففي النسخة المقدمة للسلطان هناك 290 خريطة للبحر الأبيض المتوسط ​​وبحر إيجة، وفي العهود التالية أضاف البحارة إضافات إلى الكتاب ووسّعوه أكثر.

في وقت لاحق صمم ورسم خريطة العالم الثانية بين عامي 1528-1529.ويحيط الغموض بغيابه الطويل من عام 1528 حتى ظهوره مرة أخرى في منتصف القرن السادس عشر قائداً للأسطول العثماني في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

تقدم خرائط ريس العالم من منظور عين الطائر وبوفرة من الألوان. وبالرغم من أن معظم أعماله فُقدت بسبب سنوات من الإهمال، فإن الأجزاء القليلة الباقية منه هي شهادة على أنه كان رسام الخرائط الأكثر بعداً للنظر والأكثر موهبة من الناحية الرياضية، فهو الذي رأى العالم بوضوح لدرجة أن عمله أصبح مرجعاً للمنح الدراسية المستقبلية في مجال علوم الملاحة البحرية.

هذا المقال مترجم من موقع TRTWorld.

TRT عربي
الأكثر تداولاً