تابعنا
طبيب متخصص بالطب النفسي يكتب من مدينة آدي يامان التي دمرها الزلزال في تركيا، حيث يعمل على مساعدة الناجين على التعامل مع خسارتهم وصدماتهم النفسية.

في السادس من فبراير/شباط 2023 استيقظت مرتاحاً بعد أن انتهيت من تصوير فيلم وثائقي شاق لمدة يومين عن الصحة العقلية في كشمير، وهي موطني الأصلي، بعيداً عن مكان عملي في تركيا الذي بدأته قبل ست سنوات.

عندما قرأت أخبار الزلازل التي ضربت 11 مقاطعة في جنوب شرق تركيا، كان أول شيء فعلته هو الاتصال بزوجتي والاستفسار عنها وعن أحوال الأسرة. لقد كانوا بخير، لكن من نبرتها المتوترة، كنت أعلم أن الوقت قد حان للعودة إلى تركيا بعد شهر قضيته برحاب عائلتي.

سافرت على الفور من نيودلهي إلى اسطنبول، وأنا أحمل كتيبات ميدانية وكتباً للإسعافات الأولية النفسية، والتي كنت أحزمها عشوائياً بسبب شعوري بالتوتر. تقاضت شركة الطيران مني مبلغاً كبيراً، يعادل تقريباً تذكرة الطيران، مقابل الأمتعة الإضافية، على الرغم من التماسي المتكرر. كنت في المطار قبل خمس ساعات من الرحلة، ومع ذلك كنت آخر من صعد على متن الطائرة بسبب كثرة عدد المسافرين. لم أكن أعلم أن هذه المشقات لن تساوي شيئاً مقارنة بما سأختبره وأشهده لاحقاً.

بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى إسطنبول، كان مشرفنا ومنسقنا الطبي في مركز IPAM - Ibn Haldun Psikoterapi ve Araştırma Merkez (مركز ابن خلدون للعلاج النفسي والبحوث) - يمسحان المناطق المتضررة من الزلزال. ويبدو أن النتيجة لم تكن جيدة.

كانت لدينا دورة تدريبية للطب السريري لمدة ثلاث ساعات مع المشرفين لدينا حول تقديم الإسعافات الأولية النفسية على الفور لضحايا الزلازل. تقرر أن يعمل فريقنا المكوّن من 50 معالجاً على الأرض في دورات تستمر لمدة أسبوع على الأقل. تم التخطيط للمشروع لمدة عام لتلبية الاحتياجات المتزايدة للصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي. غادرت المجموعة الأولى المكونة من 15 مختصاً نفسياً على الفور إلى مدينة آدي يامان، فيما كُلفت صنع ملصقات خاصة للأطفال ولكبار السن للمساعدة على الاسترخاء والهدوء وزعناها لاحقاً في مخيمات الإغاثة.

بعد ذلك تلقيت مكالمة للانضمام إلى مجموعتنا الثانية من المتطوعين. ولكن نظراً لأنني عدت للتو من الهند، فلم تكن زوجتي تريدنا أن نبقى بعيدين وقررت هي أيضاً التطوع معي. جاء قرارها أيضاً بدافع أنه قبل أسبوعين من الزلزال تجولنا لمدة أسبوعين في جنوب شرق تركيا وهالنا كرم ودفء الناس هناك. ولذلك أردنا أن نفعل كل ما في وسعنا لتقديم المساعدة.

وصلنا في وقت متأخر من المساء وأقمنا في مهجع تديره الدولة حيث ذكّرتني أسرته المحصنة ذات الطوابق بأيامي الجامعية عندما كنت أصغر سناً قبل عقد من الزمان. استرحت في الطابق السفلي فيما أخذ زميلي السرير العلوي. في كل مرة يستدير فيها أو يتحرك حركة خفيفة، كنت أستيقظ وأنا أشعر بالخوف من التعرض لزلزال. عندما حل الصباح كان النوم جافاني لكنني كنت مشغولاً بالتفكير في حال ملايين من الناس الذين شعروا بالزلزال وعاينوا الحادثة من كثب. هذه الأفكار ملأتني بشعور لا يخلو من الامتنان والتواضع.

مع شروق الشمس، ظهرت حقيقة كارثة الزلازل وحجمها أمام ناظري. عندما بدأ الموكب في التحرك، كان كل ما استطعت رؤيته هو الحطام والصمت، مثل ذلك الحطام الذي يتشكل بعد مرور العاصفة. تحولت مدينة آدي يامان فجأة إلى مدينة أشباح. وصلنا إلى مقاطعة إيغريجاي، حيث جرى تشيد أكثر من 400 خيمة.

عندما دخلنا موقع المخيم، كان البؤس في كل مكان. كان يجول في الأجواء شعور طاغٍ بالكآبة. فجأة، بدأ قلبي يخفق بشدة. تسلمت مجموعتنا المهام وخطة العمل الأولية. الآن الكرة كانت في ملعبنا. عملت في معسكرات إغاثة للسوريين الروهينغيا من قبل، لكن شعرت أن هذه التجربة مختلفة. ربما لأن تركيا كانت موطني الثاني منذ ست سنوات حتى الآن، وحباني الناس بلطفهم وكرم ضيافتهم لدرجة أنني لم أشعر أبداً بأنني أجنبي في هذا البلد.

وينطبق الشيء نفسه على موقع مخيم آدي يامان هذا. رُحب بي برحابة صدر، وبمجرد أن اكتشف الناس أنني أجنبي، وهو ما يتضح من لغتي التركية المكسرة، تلقيت جميع أنواع الأسئلة من كيفية تعلم اللغة إلى الكيفية التي قابلت بها زوجتي. أدى هذا الفضول إلى إحداث نوع من الترابط بيننا وفتح الناس قلوبهم لي. ذكر كثيرون أنها كانت المرة الأولى التي فعلوا فيها ذلك وضحكوا بعد الزلازل.

ومثل تأثير كرة الثلج، بدأ الأطفال والشباب بشكل خاص في التجمع لمقابلة "الرجل الهندي الأبيض" الذي يتحدث التركية.

قضيت وقتاً طويلاً في التحدث إلى الجنود هناك منذ اليوم الأول، تاركين ورائهم عائلاتهم وأطفالهم حيث عرضوا عليّ صورهم. لقد أدوا عملاً لا يُصدق في الحفاظ على القانون والنظام ونصب كل خيمة على حدة كونهم جزءاً أساسياً من فرق البحث والإنقاذ جنباً إلى جنب مع هيئة AFAD.

كل صباح نزور العائلات في خيام مختلفة على شكل فرق زوجية وذلك من أجل تقييم احتياجاتهم النفسية والاجتماعية. مع مرور الوقت، بدأ الناس يتعرفون علي وينادون عليّ باسمي. يرسلون أطفالهم إلينا للعب. ومرة أخرى، أدركت أن الأطفال أذكى مما نعتقد. لديهم ذكريات حية عن الزلازل وفقدان منازلهم وأسرهم. يعبرون عنها من خلال الرسوم، معظمها منازل ومباني أشياء فقدوها حقاً.

عقدنا أيضاً اجتماعات فردية مع الضحايا. قابلت سيدة كبيرة في السن فقدت 21 من أفراد عائلتها. التقيت شاباً فقد ما مجموعه 229 فرداً من عائلته الممتدة. ثم أولئك الذين نجوا ولكن تخالطهم مشاعر الإحساس بالذنب، مثل الرجل الذي قابلته وكان فقد ابنته وتمنى لو كان هو بدلاً منها. فقد الجميع شخصاً قريباً، وخلق هذا الفقد الجماعي رابطة مشتركة بين سكان المخيم. كل من أتحدث إليه لديه قدر لا يصدق من الإيمان والامتنان. أنا بالكاد أسمع أي شخص يشتكي. فالإيمان كان هو عامل الترابط الذي يجعل الناس يتحملون ويسايرون الأيام هنا.

أنا شخصياً ممتن وراضٍ لوجودي هنا. كل يوم، أرى أملاً وامتناناً هائلين بين الناس. يحاول الجميع في المخيم مساعدة الآخرين بكل الطريقة الممكنة. تتمتع الشرطة والجيش والمعلمين والأطباء وعمال النظافة وعلماء النفس والطلاب وحتى العائلات المتضررة بهذه الوحدة الرائعة التي من الجميل أن نشهدها.

بصفتنا علماء نفس، نعتقد أنه عندما تُروى القصص في مكان آمن، فإن ذلك يؤدي إلى معالجة المشاعر السلبية وبالتالي الشفاء. هذا ما يحدث بالفعل، وأنا سعيد بذلك. مع ذلك، وبالرغم من مرور شهر على كارثة الزلزال، مازلنا نلاحظ ارتفاعاً في حالات الصدمات المعقدة واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

في البداية، يكون الضحايا ضمن وضعية "البقاء على قيد الحياة" لتلبية احتياجاتهم الأساسية، والمعروفة باسم فترة الإجهاد الحاد. مع مرور الوقت واستتباب الأمور تبدأ مرحلة التصالح مع حقيقة الخسارة، والتي يمكن أن تتحول إلى اضطراب ما بعد الصدمة أو الصدمة المعقدة واضطراب الحزن المطول وذلك إن تُركت هذه الحالات دون علاج. وهنا يأتي دور المتخصصين بالعلاج النفسي.

وكما توجد معاناة يوجد أيضاً في المقابل علاج. الصدمة تقابلها المرونة. سأعود إلى إسطنبول قريبا إلى حين عودة دورنا القادم في العلاج النفسي. حتى ذلك الحين، ستتولى مجموعاتنا الأخرى زمام الأمور. أنا أشعر بالخوف من المغادرة الآن وأشعر بالحزن أيضاً. لكن كل نهاية هي أيضاً بداية جديدة. بينما أكتب هذا بحب من آدي يامان، فإنه يذكرني بالمثل القائل: "رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة". أعتقد أننا اتخذنا الخطوة الأولى لكن هل ستعود مدينة آدي يامان ويعود سكانها كما كانوا من قبل؟


جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً