تابعنا
إنّ عملية "طوفان الأقصى" تعدّ نقلةً مذهلةً في شكلها ونتائجها وآثارها ليس على الأراضي الفلسطينية فقط، وإنّما على الإقليم بكامله.

لا يكاد يشك أحد من المحللين، سواء في الجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني أو الدولي، في أنّ نتيجة الحرب العنيفة التي تعيشها المنطقة منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" كُتبت قبل حتى أن تبدأ.

هذه المعركة غير المسبوقة كُتبت نتيجتها في السادسة والنصف من صباح السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وذلك ببساطة لأنّ الهدف الأساسي من الحرب، وهو الصدمة والترويع وهدم منظومة الأمن الإسرائيلية، قد تحقق بالفعل مع تدفق مئات المقاتلين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل التي لم تشهد حدثاً كهذا منذ خمسة وسبعين عاماً!

نفي الوجود الفلسطيني

آخر مرةٍ وُضعت فيها أقدام جنود عربٍ على أراضي ما بات يعرف باسم سديروت وزيكيم وصوفا وإيريز وكيسوفيم، كانت في أثناء حرب عام 1948 عندما أُعلنت "دولة إسرائيل"، وكان الجيش المصري والمتطوعون معه آخرَ مَن قاتل في تلك المواقع، قبل أن تُحتل بالكامل وتُطهَّر عِرقياً من السكان الفلسطينيين الذين هُجِّر أغلبهم إلى قطاع غزة.

ومنذ ذلك العام لم تطأ قدم مقاتلٍ عربي أو فلسطيني تلك الأرض حتى يوم السبت الذي انطلقت فيه عملية "طوفان الأقصى"، لتهدم في سويعات بسيطة كل نظريات التفوق الإسرائيلي التي تبجحت بها إسرائيل طوال 75 عاماً.

مشكلة إسرائيل على مدار سنوات الصراع الطويل في فلسطين بمحطاته كافة أنّها كانت دائماً ما تُعمي عينها عن وجود شعب فلسطيني لديه حقوق، ففي مقابلةٍ شهيرةٍ مع صحيفة "صنداي تايمز" البريطانية بتاريخ 15 يونيو/حزيران 1969، ردّت غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل، على سؤال للصحفي البريطاني فرانك غيليس، حول ظاهرة الفدائيين الفلسطينيين يومها بالقول إنّه "لا وجود لشيء اسمه الشعب الفلسطيني".

غولدا مائير، صاحبة هذا التصريح الشهير، كانت تظن أنّ نفي وجود الشعب الفلسطيني يعطي إسرائيل كل الحق في معاملتهم بوصفهم "لا شيء"، أو بوصفهم مجرّد "حيوانات بشرية"، كما صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يوآف غالانت، قبل أيام، مشيراً إلى الفلسطينيين في غزة.

ويعتقد غالانت أنّه سيحصل بذلك على شرعية فرض حصارٍ مطبقٍ على غزة، فيمنع عنها الغذاء والماء والوقود والكهرباء من دون أن يرمش له جفنٌ، أو يأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الإعلان في حدّ ذاته يعدّ جريمة حربٍ، حسب القانون الدولي.

حرب غير مسبوقة

من هنا تأتي أهمية هذه الحرب الاستثنائية، فهي المرة الأولى التي يبادر فيها الفلسطينيون إلى مباغتة إسرائيل من دون مقدمات بهذا الاكتساح الواسع، وهي الحرب التي وقع فيها أكبر عددٍ من القتلى والجرحى في تاريخ إسرائيل حتى اليوم.

وهي كذلك الحرب الأولى التي قامت داخل الأراضي التي احتلتها إسرائيل عند إعلانها عام 1948، وهي الحرب الأولى الفعلية التي تعلنها إسرائيل بشكل رسمي ضدّ فصائل مقاومةٍ وليست ضدّ دول، ولذلك فإنّ هذه الحرب تعدّ استثنائية بكل المعايير، رغم أنّ نتيجتها حُسمت بالفعل مهما كانت مجرياتها على الأرض.

إنّ عملية "طوفان الأقصى" تعدّ نقلةً مذهلةً في شكلها ونتائجها وآثارها ليس على الأراضي الفلسطينية فقط، وإنّما على الإقليم بكامله، فالفشل الاستخباري الذريع الذي مُنيت به إسرائيل في توقع العملية نفسها، ناهيك بتوقيتها وشكلها وأبعادها، أسقط سُمعة إسرائيل بصفتها تمتلك أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم كله.

كما أنّ دخول المقاتلين الفلسطينيين من عشرات نقاط العبور في السياج الأمني وسيطرتهم بسهولة على عشرات المواقع العسكرية وتجاوزهم جميع التقنيات المتقدمة التي تبيعها إسرائيل للعالم كلّه، أسقط أسطورة الردع التي جهدت إسرائيل لبنائها على مدار سبعة عقود.

انهيار سمعة إسرائيل

وسيكون لهذا الاختراق الكبير تأثيره الاقتصادي الهائل على الصناعات الدفاعية الإسرائيلية وسُمعتها في العالم، فإسرائيل تفاخر بقدراتها العسكرية الدفاعية وتبيع منظوماتها الأمنية، كالقبة الحديدية وأنظمة المراقبة والمتابعة والدفاع والردع بمبالغ خيالية، وهذا الحدث الكبير أثبت فشل هذه الأنظمة في حماية إسرائيل نفسها من مقاتلين لا يمكن بأي حالٍ مقارنةً إمكاناتهم البسيطة بإمكانات إسرائيل.

وأما الانهيار الدراماتيكي لقوة الردع الإسرائيلية، فإنّه لا بدّ أن يُغري قوى داخلية وإقليمية كثيرة، ليست أقلها الفصائل الفلسطينية في الضفة و"حزب الله" في لبنان، باستغلال هذا الضعف الذي انكشف لدى إسرائيل في تقوية مشاريعها التي تَعدّها إسرائيل خطراً وجودياً عليها.

ولجوء إسرائيل إلى القصف الجنوني على قطاع غزة بهذا الشكل البشع، وارتكاب جريمة حرب تتمثل في قطع المياه والكهرباء والوقود والغذاء عنها، أو حتى إقدامها على حرب برِّيةٍ في القطاع ترفع الفاتورة البشرية المدنية في غزة... ستكون لها أسوأ الأثر على إسرائيل لاحقاً. وقد بدأت أصواتٌ تتعالى في العالم متحديةً البروباغندا الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية لتكشف مدى الوحشية التي تتميز بها الردود الإسرائيلية ضدّ المدنيين العزل.

وهذا الأمر لن ينتهي ببساطة على المدى البعيد مهما حاولت إسرائيل تغطية ذلك بنشر الأخبار المكذوبة، مثل كذبة "قطع رؤوس 40 طفلاً" التي سرعان ما تبين كذبها، إذ إنّ الكذب لا يمكن أن يستمرّ مع تقدم تقنيات التواصل اليوم، ولا يمكن لأحد التحكم في تناقل المعلومات اليوم حتى لو وصل الأمر للتهديد بالعقاب، كما فعل الاتحاد الأوروبي الذي يحاول بسذاجة منع نشر صور الجرائم الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر تهديد بعض المنصات مثل "X" (تويتر سابقاً) أو التعاون مع أخرى مثل "ميتا"، (فيسبوك).

طوفان الأقصى: انقلاب الموازين

إنّ استنجاد إسرائيل بالولايات المتحدة من جانب، وإرسال واشنطن، المنهمكة بالانقسامات الداخلية العميقة، حاملة طائرات إلى المنطقة لإظهار دعمها لإسرائيل من ناحية أخرى، لن يكون مفيداً بحالٍ لإسرائيل في هذه المعركة ولا بعدها، فالولايات المتحدة يُستبعد أن تخاطر بالدخول بشكل مباشر في مغامرةٍ غير محسوبةٍ ضدّ الفصائل الفلسطينية، وهي التي لم تنتصر فعلياً في أي حربٍ من حروب العصابات التي اضطرت لخوضها ضدّ حركاتٍ وفصائل وتنظيماتٍ مقاتلةٍ سواء في فيتنام أو لبنان أو أفغانستان أو العراق، على عكس انتصاراتها في حروبها ضدّ الدول.

وفي الحقيقة، إنّ هذا الاستنجاد بالولايات المتحدة إنّما يزيد صورة إسرائيل ضرراً، فهو يُظهرها بمظهر المشروع العاجز عن حماية نفسه بنفسه أمام التهديدات الوجودية، وبذلك فإنّ ضرر هذه الخطوة على المدى البعيد قد يكون أكبر من فائدتها!

ولعل أهمّ أثر واسع لهذه العملية يتعلق بضرب مشروع التطبيع الإقليمي مع تل أبيب، فإسرائيل التي بدت عاجزةً عن حماية نفسها لن تكون ذات فائدةٍ تُذكر للقوى التي تروّج للتطبيع معها، سواء خوفاً من قوتها المتوهَّمة وطلباً لحمايتها، أم طمعاً في الحصول على التقنيات الدفاعية التي كانت إسرائيل تبيعها وتدّعي كفاءتها العالية قبل أن يظهر فشلها الذريع في هذه العملية.

لا أبالغ إنْ قلت إنّ عملية "طوفان الأقصى" سيكون لها دور كبير في تغيير موازين القوى والردع في المنطقة إلى الأبد، فما كان بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما كان قبله، وستتمخض عن نتائج المعركة حسابات سياسية جديدة في المنطقة بعد هذه الحرب، ومَن لا يرى هذه الحقيقة سيبقى يعيش وهمَ الماضي فقط.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً