"أصول التوتر الحالي في العلاقات مع لبنان تعود إلى هيمنة حزب الله". بكلمات معدودة لخّص وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان الأزمة المستجدة بين المملكة العربية السعودية ومعها بعض دول الخليج، ولبنان.
المشكلة -حسب الفرحان- لاعلاقة لها بتصريح صدر عن وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي على وسائل التواصل الاجتماعي قبل تبوُّئه حقيبة الإعلام في الحكومة اللبنانية، انتقد فيه الحرب على اليمن ووصفها بالـ"عبثية". قد يكون هذا التوصيف الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فالاستياء السعودي من لبنان سابق على كلام قرداحي، وهو مرتبط بأداء السلطة في لبنان خلال السنوات الماضية، التي تعتبر المملكة أنه بات خاضعاً بالكامل لحزب الله ومن ورائه إيران. ولعلّ كلام قرداحي شكّل مناسبة لتعبر الرياض عن غضبها واستيائها من أداء السلطة اللبنانية السلبي تجاه الرياض، في وقت لطالما كانت فيه المملكة تمدّ يد العون والمساندة والدعم للسلطة في لبنان وللبنانيين.
قبل انتشار كلام الوزير قرداحي عن "عبثية" الحرب على اليمن لم تكن العلاقات السعودية اللبنانية على خير ما يرام، فالبرود والجفاء سمة رافقت العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة. الجديد هو أن المملكة بدأت التعبير عن استيائها من أداء السلطة اللبنانية، الأمر الذي كانت تتجنبه في السابق.
حسب مراقبين، الانعطافة المفصلية في تعاطي الرياض مع الملف اللبناني بدأت يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حين قدّم رئيس الحكومة -آنذاك- سعد الحريري استقالته في خطاب متلفز من العاصمة السعودية الرياض. الحريري في استقالته اعتبر أن الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره هي وجود دولة داخل الدولة، في إشارة إلى حزب الله، وهي مواقف المملكة نفسها التي نسمعها اليوم حول لبنان. يومها ساهمت مساعٍ وضغوط عربية ودولية في مغادرة الحريري الأراضي السعودية والعودة إلى لبنان رئيساً للوزراء بعدما رفض رئيس الجمهورية قبول استقالته. لكن الرياض اعتبرت تراجُع الحريري عن الاستقالة استجابة لضغوط حزب الله بخلاف رغبتها. منذ ذلك الحين تعتبر الرياض نفسها غير معنيَّة بالملف اللبناني، وترفض النقاش حوله مع الوسطاء والمُوفَدين الذين يأتون إليها، وصارت الرياض تحرص على التعبير عن موقفها "المستاء" من أداء السلطة في لبنان عند كل مناسبة.
فقبل أشهر، وخلال مقابلة متلفزة مع قناة "الحرة" الأمريكية، اعتبر وزير الخارجية في الحكومة السابقة شربل وهبة أن السعودية ودول الخليج هي مَن أوجد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق، واتهمهم بتمويل التنظيم. هذه التصريحات تسبّبت بموجة عارمة من الغضب السعودي والخليجي الرسمي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، وانضمّ إليهم شريحة واسعة من اللبنانيين الذين ساءهم تعكير العلاقات مع دول الخليج التي لها أيادٍ بيضاء كثيرة في لبنان، ولطالما شكّلَت داعماً ومسانداً للبنانيين دون تفرقة بين الطوائف والانتماءات. لم تهدأ الأمور إلا بتقديم الوزير استقالته وخروجه من المشهد السياسي.
لم تكَد السلطات السعودية تنسى ما قاله وزير الخارجية اللبناني حتى برزت قضية جديدة، فالسلطات السعودية تمكنت من ضبط شاحنة خضراوات قادمة في لبنان تحمل ملايين الحبوب المخدرة مخبأة داخل ثمار الرمان، وهي لم تكن المرة الأولى التي تضبط فيها تهريباً للمخدرات مصدره لبنان. فأصدرت السلطات السعودية قراراً في أبريل/نيسان الماضي بمنع دخول الفواكه والخضراوات اللبنانية، أو نقلها عبر أراضيها، بعدما تزايدت وتيرة تهريب المخدرات إلى أراضيها. القرار السعودي المفاجئ بإقفال الأسواق السعودية بوجه الصادرات اللبنانية زاد حدة الأزمة والضغط على اللبنانيين، بخاصة أن السوق السعودية هي إحدى أكبر الأسواق للصادرات اللبنانية، ولم تنفع كل التطمينات والضمانات التي قدمها المسؤولون في بيروت لثني السلطات السعودية عن قرارها.
بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب وتشكيل نجيب ميقاتي حكومة جديدة، حرص ميقاتي على توجيه رسائل الغزل إلى المسؤولين في الرياض، لكن رسائله لم تلقَ جواباً. حاول عديد من الوسطاء والموفَدين أخذ موعد لرئيس الحكومة في الرياض، لكن الموقف السعودي بقي على حاله.
بالعودة إلى الكلام الصادر عن وزير الإعلام جورج قرداحي حول "عبثية" الحرب في اليمن، تسبّب هذا الكلام في موجة عارمة من الاستياء، سواء من جانب السعودية أو حتى من جانب لبنانيين كانوا يسعون لإعادة ترميم العلاقة بين بيروت والرياض، في وقت يعيش لبنان أزمة خانقة، وهو بأمسّ الحاجة إلى أي عون أو دعم أو مساندة، فكيف إن كان الدعم من المملكة العربية السعودية؟ صحيح أن التصريح الصادر عن قرداحي كان موقفاً شخصياً لا يعبّر عن موقف الحكومة، وهو صدر قبل أشهُر من تعيينه وزيراً، لكنه كشف للمملكة عن حقيقة مواقف الأشخاص الذين يتبوؤون المسؤولية في السلطة. حرصوا على توصيف الحرب في اليمن بأنها "عبثية"، لكنهم لم ينتبهوا لعبثية الحروب التي تشنّها إيران بأدواتها المختلفة في المنطقة. فإذا كانت الحرب في اليمن عبثية، فبماذا يمكن توصيف ما تقوم به إيران من مساندة ودعم للنظام السوري الذي يقتل شعبه منذ سنوات، وما التوصيف المناسب لمساندة إيران وأدواتها لمليشيا الحشد الشعبي في العراق، ومساندة المعارضة في البحرين، والانتقادات والشتائم والاستهزاء الذي يصدر كل يوم من شخصيات تدور في فلك إيران باتجاه المملكة وقيادتها؟
الاستياء السعودي من لبنان بالنسبة إلى كثيرين غير مفهوم، فالبعض ربطه بالحرب في اليمن والتمدُّد الذي يقوم به الحوثيون ومن ورائهم إيران باتجاه مأرب، والبعض الآخر اعتبر أن الغضبة السعودية على لبنان هي تعبير عن خيبة أمل الرياض في السلطة التي واصلت المملكة طوال عقود تقديم الدعم والمساندة لها وللجيش وللمؤسسات في لبنان، وكانت دائماً حريصة على جمع كلمة اللبنانيين، والنأي بنفسها عن الانقسامات بينهم، وتأكيدها في كل مناسبة أنها تقف إلى جانب جميع اللبنانيين، وتستقبل على أرضها مئات آلاف اللبنانيين الذين يشكّلون رافداً مهمّاً في التخفيف من الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه لبنان. بعد كل هذا الأداء، تقابلها السلطة اللبنانية بالانتقاد ونكران الجميل، ثم تستغرب دوافع الاستياء السعودي.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.