بدا واضحاً منذ الأيام الأولى لإعلان فوز معسكر اليمين الإسرائيلي أن لديه خطة محكمة تسعى لإحداث تغيير جوهري في المنظومة القانونية القضائية في الدولة.وتباينت الأوصاف التي أطلقها الإسرائيليون عليها، بين من سماها "الإصلاحات القانونية" من تيار المؤيدين، و"الانقلاب القضائي" من معارضيها، لكن القناعة التي سادت معظم الإسرائيليين، فضلاً عن مؤيديهم من الخارج، أن هذه "الإجراءات" القانونية لا تهدف إلى تعزيز النظام السياسي، بل تقزيمه ومحاصرته.
أشرف على هذه التغييرات القانونية عدد من المسئولين الإسرائيليين البارزين، أهمهم وزير القضاء ياريف ليفين المقرب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وسيمحا روتمان رئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء في الكنيست، ومعهما قادة الائتلاف اليميني لاسيما إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي وبيتسلئيل سموتريتش وزير المالية، الذين رأوا في هذا المخطط سبيلاً يحقق لهم تطلعاتهم بتغيير المنظومة القانونية القضائية في الدولة، بزعم أن من يسيطر عليها هم نخبة اليسار.
ورغم مزاعم الحكومة أن هدفها مما أسمتها "إصلاحات" هو تعزيز الديمقراطية، واستعادة الحكم، واستعادة الثقة في نظام القضاء، وإعادة التوازن بين السلطات الثلاث، فإن الوقائع على الأرض خلال الشهور الثلاثة الماضية تؤكد أن نتيجة هذه الإجراءات لن تسفر عن هذه المبادئ الترويجية، بل إن الواقع الحالي للحكومة يشير إلى أن الهدف هو عكس ذلك تماماً.
تركزت مطالب قادة اليمين الإسرائيلي، ومعظمهم من كبار المستوطنين وداعميهم، من إجراءاتهم القانونية على خمس خطوات رئيسية، أولها تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة، وتحييد نقابة المحامين عنها، وإضافة عناصر حزبية إلى اللجنة، وهذا يعني الإضرار بشكل كبير بمستوى مهنية القضاة الذين سيجري انتخابهم، لأنهم لن يُنتخَبوا وفقاً لمستوى أدائهم المهني، بل وفقاً لآرائهم، ومدى توافقهم مع الحكومة السياسية التي ستعينهم في مواقعهم هذه.
في هذه الحالة، سيجد القضاة والمرشحون القضائيون الإسرائيليون أنفسهم يغازلون السياسيين لخدمة مصالحهم، بدلاً من أن يكونوا هم الذين يحافظون على النظام السياسي بشفافية، بل إن مثل هذه الخطوة ستلغي تماماً الفصل القائم بين السلطتين القضائية والتنفيذية، وستُخضِع في الواقع النظام القضائي للحكومة والكنيست، أي إنه لن تعود السلطات منفصلة، بل سلطة واحدة تحدد وتدير كل شيء، دون أي إشراف وسيطرة من السلطات الأخرى.
التغيير القانوني الثاني يتركز في التشريع الخاص بما يسمى "التغلب"، بأغلبية 61 عضواً فقط في الكنيست، ويعني إعطاء الحكومة القدرة على إلغاء أي حكم صادر عن المحكمة العليا بأغلبية ضعيفة ومهملة، مع تجاهل تام لجوانب حقوق الإنسان والحريات الفردية والمبادئ الديمقراطية الأخرى، وهذا التغيير يجعل الحكومة تمتلك سلطة هائلة دون ضوابط وتوازنات.
أما الإجراء القانوني الثالث فهو الحد من صلاحيات المحكمة العليا لإبطال القوانين، ومنع قدرتها على التدخل في القوانين الأساسية، وهنا تظهر المشكلة من شقّين: الحدّ من تدخل المحكمة في العمليات التشريعية، بما في ذلك القوانين الأساسية، في ظل حقيقة قد تفاجئ الكثيرين أنه في إسرائيل، وعلى النقيض تماماً من جميع دول العالم تقريباً، لا دستور.
في هذه الحالة سنّ الكنيست عدداً من القوانين الأساسية، لا يتمتع بقوة الدستور، ويمكن تغييرها وإعادة تعريفها بسهولة نسبياً، وبما يتوافق مع أهواء كل حكومة، وهذا السبب الذي جعل الحكومات الإسرائيلية على مدى أجيال تتجنب التعامل مع النزاعات المعقدة في المجتمع الإسرائيلي، مما اضطر المحكمة إلى التدخل، وتحديد موقفها.
التغيير القانوني الرابع يتمثل بما يسمى "إزالة سبب المعقولية" في اعتبارات المحكمة العليا، قد يبدو هذا المطلب منطقياً، بل أساسياً في النظام القانوني في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ومعظم دول العالم، لأنه يرتبط بصورة مباشرة بمبادئ العدالة والشفافية وممارسة الحكم السليم في عمليات صنع القرار في الحكومة، أما الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولأنها تعلم مسبقاً أن قراراتها ستكون غير منطقية بشكل واضح، فإنها ستسعى بالتأكيد لإزالة سبب المعقولية، وزيادة سلطتها، وقدرتها على الحكم دون قيود.
الخطوة الخامسة والأخيرة في الانقلاب القانوني الذي يقوده قادة المستوطنين تتمثل في الإطاحة بجميع المستشارين القانونيين في المكاتب الحكومية، عقب زيادة أوزانهم في عمليات صنع القرارات الإسرائيلية بشكل كبير، وفي بعض الحالات أصبح لهم عبء ثقيل على الإدارة وعمل الأنظمة العسكرية مثل الجيش والمخابرات والشرطة، صحيح أن هذا الأمر يحتاج إلى مزيد من استعادة التوازن، لكن المسار الذي اقترحته الحكومة سيحقق النتيجة المعاكسة، لأنه سيعزز الحكم الشمولي للحكومة القائمة، دون قيود قانونية.
الإجراءات القانونية المقترحة تجعل مهمة المستشار القانوني أمام الوزير المسؤول فقط، دون ممارس أي حكم مهني أو رأي نقدي، بل سيركز بدلاً من ذلك على إيجاد الدعم والتبرير لجميع إجراءات الحكومة، مما يعني تعزيز سلطة الحكومة، وفي الوقت ذاته تمنع تماماً أي قدرة قانونية على الدفاع عن قرارات الحكومة أمام المنظمات والدول والكيانات خارج الدولة.
إن تحليل التحركات التي تعتزم الحكومة تنفيذها في المجال القانوني، تظهر صورة واضحة غير التي يتحدث عنها الوزراء ورئيسهم، فالهدف لا يتعلق بتعزيز الديمقراطية في إسرائيل، بل بإضعافها بالكامل، والغرض من هذه التحركات خلق قدرة مطلقة للحكومة ورئيسها، دون أي تدخل أو مراجعة قضائية، على غرار الحكومات الديكتاتورية الأخرى في العالم، مثل المجر وبولندا وروسيا.
الخلاصة الإسرائيلية من هذه التحركات القانونية جاءت على لسان القاضي أهارون باراك رئيس المحكمة العليا الأسبق، الذي حذر أنه "إذا تحققت هذه الخطط، فسيكون لدينا في إسرائيل سلطة واحدة فقط، هي رئيس الوزراء، ونتيجة لذلك ستتوقف المحكمة عن أداء الوظائف العادية التي تؤديها في أي مجتمع سوي".
عديدة هي الأسباب والعوامل التي تدفع بقادة اليمين للمضي قدماً في هذه الإجراءات القانونية والقضائية، لعل أولها أن رئيس الحكومة يضع نصب عينيه هدفاً أساسياً مركزياً يتمثل بالحد من سلطات القضاء بغرض طي صفحة محاكمته بتهم الفساد التي يبدو أنها متورط فيها، وتوجد قناعات إسرائيلية سائدة أن المحكمة العليا خصوصاً، والمنظومة القضائية والقانونية عموماً، جهزت الملف الخاص بمحاكمته، أي أنها باتت مسألة وقت ليس أكثر.
ثاني الدوافع اليمينية ذات البعد القومي في إقرار الانقلاب القضائي تتمثل في اتهام معسكر اليمين، خاصة "الليكود والعصبة اليهودية والصهيونية الدينية"، للمحكمة العليا بصفة خاصة أنها تتبنى مواقف يسارية بالنسبة للمشاريع الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ جرت العادة أن تصدر المحكمة قرارات تستجيب لاستئنافات تتقدم بها المنظمات الحقوقية تطالب بوقف وتجميد البناء الاستيطاني، وعدم الموافقة على قرارات مصادرة الأراضي الفلسطينية، واعتبارها غير قانونية.
دافع ثالث يتبناه اليمين الديني في الحكومة الحالية، لا سيما أحزاب "شاس ويهودوت هاتوراه"، التي تسعى بكل ثقلها لاستغلال الاغلبية البرلمانية المتوفرة اليوم في الكنيست بهدف العمل على المصادقة على قوانين تعفي عناصرها المتدينين من أداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وفي الوقت الذي يعتقدون أن الحكومة ورئيسها سيمررون هذه القوانين، خدمة لمصالحهم الحزبية الائتلافية، إلا أن لديهم مخاوف جدية تتعلق بقدرة المحكمة العليا على إبطال هذه القرارات والقوانين، مما يستدعي الحاجة المصلحية إليهم لتقليص صلاحياتها الواسعة.
دافع رابع ذو أبعاد عرقية غريبة يتمثل في اتهام اليهود الشرقيين "السفارديم" الذين يمثلهم حزب شاس الديني في الحكومة برئاسة أرييه درعي، للمحكمة العليا بالسيطرة عليها من اليهود ذوي الأصول الغربية "الأشكناز"، مما يعتبرونه إجحافاً بحق نسبة لا يستهان بها من بين اليهود في إسرائيل عموماً.
اضطر نتنياهو إلى إعلان تجميد خطواته الانقلابية في المسار القانوني والقضائي تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية الجماهيرية غير المسبوقة في إسرائيل. ورغم هذا التراجع الذي يبدو تكتيكياً مؤقتاً، فإن اليمين الإسرائيلي لا يبدو أنه بصدد التفريط بالأغلبية التي حصل عليها في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في الكنيست، دون تحقيق ما يعتبرها إصلاحات قانونية أساسية، تحقق له الأهداف الواردة أعلاه.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.