لا يكاد يمرّ يوم من أيام الحرب العنيفة على الأراضي الفلسطينية من دون أن يصدر تصريح من أطراف دولية وإعلامية مختلفة حول احتمال وشيك للتوصل إلى هدنة، ثم لا تلبث الأمور تزداد التهاباً وشدةً في غزة مع تواصل الهجوم الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، واستمرار إطلاق الصواريخ والعمليات البرية المستمرّة للمقاومة الفلسطينية ضد أهدافٍ إسرائيلية متعددة.
الواقع أن أحد أهم عوائق التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار يقع في الدرجة الأولى على عاتق الحكومة الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية.
ترى إسرائيل وحلفاؤها أن المستفيد الوحيد من أي وقفٍ لإطلاق النار هي حركة حماس التي يمكن -وفق الرواية الإسرائيلية- أن تستغلّ هذا الأمر لترتيب أوضاعها الداخلية وإعادة انتشار أفرادها وتجهيز نفسها استعداداً لاستئناف القتال.
ولهذا، فإن الولايات المتحدة بالذات، ما زالت ترفض إعلان وقف إطلاق النار الدائم، وكانت هي التي طرحت حلاً وسطاً يتمثل في فترات هدنة مؤقتة لا تتجاوز بضع ساعات، بحيث لا تعطي حركة حماس مهلةً كافيةً لإعادة ترتيب صفوفها، وفي الوقت نفسه تسمح بحركة بعض المساعدات القليلة.
كان آخر هذه المقترحات المطروحة للتفاوض هدنة يومية مؤقتة لمدة أربع ساعات يُسمح فيها -حسب وجهة النظر الأمريكية- للشاحنات التي تحمل المساعدات بالتحرك بأمان، وتسمح للراغبين من المواطنين الفلسطينيين بالانتقال من شمال غزة إلى جنوبها، وفق الرؤية الإسرائيلية-الأمريكية.
إلّا أنه ينبغي التنبيه هنا إلى أن واشنطن لا ترى في هذه الهدنات المؤقتة المقترحة أكثر من فرصةٍ لإنقاذ مواطنيها المحتجزين في قطاع غزة، إذ تودّ فرض هدنةٍ مؤقتةٍ تقبل بفضلها حركة حماس إطلاق سراح المحتجزين من حَمَلة الجنسية الأمريكية فقط، وهو ما تفهمه حماس وإسرائيل على حد سواء.
بالنسبة إلى حماس، فإن فكرة وقف إطلاق النار تعد فكرةً مقبولةً مهما كانت مدتها قصيرة، وذلك لنقل المرضى إلى أماكن آمنة وإدخال الأدوية، بُغية تخفيف فاتورة الدم الإنسانية التي نشهدها منذ أكثر من أربعين يوماً من الهجوم الإسرائيلي المروع ضد قطاع غزة.
وترى حماس أن مسألة المحتجزين يمكن أن تعالَج خلال هذه الفترات، علماً بأن الحركة عندما تتحدث عن "المحتجزين" فإنها تقصد حصراً بعض المدنيين الذين انتهى بهم المطاف داخل قطاع غزة، كما أعلنت المقاومة الفلسطينية أكثر من مرة، وليست لهم خلفية عسكرية.
وتعد حماس هؤلاء ضيوفاً لديها لا أسرى حرب، وهي بالتالي لا تتحدث بأي شكلٍ عن الأسرى الذين يوجدون بين أيديها من العسكريين الإسرائيليين، وإنْ كان بعضهم يحمل جنسيات مزدوجة سواء أكانت أمريكية أو غيرها.
أما حكومة نتنياهو فهي التي تتعنّت بشدّة في قبول فكرة الهدنة المؤقتة بالشكل الذي تريده إدارة الرئيس الأمريكي بايدن بهذا الخصوص؛ لأنها تفهم أن الولايات المتحدة تريد حلّ مشكلة مواطنيها بالدرجة الأولى، أكثر مما تريد حل مشكلة الأسرى الإسرائيليين.
وبالتالي، تخشى إسرائيل من رد الفعل الداخلي العنيف في حال موافقتها على مثل هذا السيناريو الذي سيُفضي إلى تجزئة قضية الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين وغيرهم، وهو ما سيعطي حماس إمكانية المناورة لكسب مزيد من النقاط وتحقيق مكاسب كثيرة مع كل مجموعةٍ يجري إخراجها من الأسر.
وفي السياق ذاته، ترى إسرائيل أن خروج الولايات المتحدة الأمريكية من معادلة ضغط الأسرى والمحتجزين، خصوصاً في حال إطلاق سراح المواطنين الأمريكيين من غزة، سيعقّد موقفها في مواجهة المقاومة الفلسطينية سواء دولياً أو محلياً، ما قد يفرض عليها التنازل لاحقاً تحت ضغطٍ أمريكي أو دولي، وهو ما سوف يعني فعلياً فشل حربها.
ثمة كذلك سبب آخر يفسر رفض الاحتلال المتكرر هدنات إنسانية، ويتمثل في تخوف إسرائيل من أن تشكل الهدنة الإنسانية سابقةً تفرض تكرارها، بحيث يرى العالم أن لكل هدنة أثراً إيجابياً على المدنيين.
وهو ما سيدفع المجتمع الدولي إلى الضغط والمطالبة بتكرارها مراتٍ عدّة لتتحول مع الوقت من هدنات مؤقتةٍ متقطعةٍ إلى وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار من دون أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها من الحرب، بغضّ النظر عن كون هذه الأهداف المعلنة أصلاً لا يمكن تحقيقها عملياً.
والملاحَظ هنا أنّه كلّما نقلت وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية تصريحات عن مسؤولين أمريكيين حول استعداد أو قبول إسرائيل هدنة إنسانية، خرجت حكومة الاحتلال لتنفي الخبر ولتعلن استمرارها في الحرب، وهذا الأمر إنْ دلّ على شيء فيدلّ على أحَد أمرين:
إمّا خلافات داخل الإدارة الأمريكية التي يُحتمل أنها أضحت تميل إلى المطالبة بهدنةٍ مؤقتةٍ؛ لتخفيف الضغط الداخلي عليها خصوصاً من طرف الشارع الأمريكي.
وإمّا أن الأمر لا يعدو كونه نوعاً من الحرب النفسية المتفق عليها بين الطرفين الإسرائيلي والأمريكي، تهدف إلى زعزعة الموقف الشعبي الفلسطيني المطالب للاحتلال بوقف مؤقّت لإطلاق النار؛ للسماح بدخول المساعدات ومنع وصول الكارثة الإنسانية في غزة إلى مرحلة الّلا عودة.
ومن خلال مراقبة الأحداث، في الحالة الثانية يمكن القول إن الفلسطينيين لا ينخدعون بمثل هذه الحرب النفسية، بدليل استمرار القصف الفلسطيني ومهاجمة القوات البرية الإسرائيلية من دون إعطاء أدنى اعتبارٍ للحديث الذي يتردد يومياً عن وقف إطلاق النار أو هدنةٍ مؤقتة، فالفلسطيني لم يعد لديه شيء يخسره بعد كل هذه الكارثة الإنسانية الكبرى، وهذه في الحقيقة تعد نقطة قوة للفلسطينيين لا نقطة ضعف.
والمحصلة أن إسرائيل صعدت "قمّة شجرة" أعلى ممّا تحتمل، وهي حتى الآن محتارة في كيفية النزول عنها، بل عاجزة عن ذلك.
فهي ببساطة لم تحدد لنفسها أهدافاً منطقيةً في بداية الحرب، ولذلك تخشى من فكرة الهدنة في حد ذاتها، ما يجعلها تضع شروطاً تعجيزية لفرض هدنةٍ إنسانيةٍ، رغم أن فكرة الهدنة الإنسانية في الأعراف والقوانين الدولية لا يمكن أن تكون مشروطةً بشيء في حالات الحروب.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.