جاءت هذه الزيارة بعد موجة من العلاقات المتأرجحة أطّرَت العلاقات بين أنقرة وأبو ظبي خلال الفترة الماضية، وأدخلت المنطقة بدورها في تجاذبات سياسية عديدة، عبر العديد من الملفات والقضايا، إذ حاول العديد من القوى الإقليمية الاستفادة من هذه التجاذبات، وتعظيم منافعها الاستراتيجية، ومنها إيران التي وجدت فيها فرصة جيدة لتعظيم نفوذها الإقليمي.
وفي هذا الإطار تنظر إيران إلى أن أي حراك إقليمي تقوم به تركيا، يمكن أن ينعكس عليها استراتيجياً، إذ إن تركيا حاضرة بنفس الساحات التي تحضر بها إيران تقريباً، ومن ثم تخشى إيران من الانفتاح التركي الأخير حيال عديد من دول الإقليم، شمل مصر والإمارات، والمملكة العربية السعودية وإسرائيل في المحطة المقبلة، وهو ما يمكن توصيفه بأن تحولاً جديداً في رؤية صانع القرار السياسي التركي، الذي أخذ يقرأ جيوبوليتيك المنطقة وفق رؤية ونهج جديد، يتجاوز مرحلة سياسة الصفر مشكلات، ليدخل مرحلة الشراكات الاستراتيجية، فبعد الشراكة الاستراتيجية الموسعة التي ربطت تركيا مع قطر، أثمرت الزيارة الأخيرة للرئيس أردوغان لأبو ظبي عن توقيع 13 اتفاقية.
التداعيات الجيوسياسية المحتمَلة للتقارب التركي-الخليجي
على الرغم من انضمام إيران مؤخراً إلى منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وتفعيل شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الصين، وطموحها إلى تحقيق ذات الشراكة مع روسيا، فإنها لا تزال تواجه وضعاً جيوسياسياً معقداً، جعلها غير قادرة على التواؤم مع محيطها العربي، وعلى هذا الأساس تنظر إيران إلى أن الانفتاح السياسي التركي الأخير على الدول الخليجية، الذي قد يتطلب من جهة أخرى تغيُّراً في بوصلة السياسية التركية حيال إيران، وتحديداً في ملفات العراق واليمن وسوريا، فالضرورات الاقتصادية والاستراتيجية التي دفعت تركيا نحو دول الخليج، قد تؤدي بالنهاية إلى إعادة توجيه تركيا ضدّ طموحات إيران الإقليمية.
مما لا شك فيه أن التقارب الأخير بين تركيا ودول الخليج سيكون له تداعيات مهمة على مستوى العلاقات التركية-الإيرانية، والعلاقات الإيرانية-الخليجية، وبالإطار الذي قد يُعيد تشكيل سياق العلاقات الإقليمية وفق الاستحقاقات الجديدة.
فعلى مستوى العلاقات التركية-الإيرانية، قد يزيد هذا التقارب فاعلية الدور التركي على حساب الدور الإيراني، فتركيا عبر حراكها الإقليمي الجديد، تحديداً حيال دول الخليج، تريد أن ترسل رسالة إلى المجتمع الدولي بأنها الأساس الذي ستتشكّل عليه التوازنات الاستراتيجية الجديدة، وأنها الضامن الوحيد لمصالحها الاقتصادية والطاقوية في المنطقة، في ظلّ الإصرار الأمريكي على التوجُّه نحو الشرق، وقطع الطريق على إيران لملء فراغ القوة الذي تخشى منه القوى الدولية، والأكثر من ذلك أن تركيا لديها تصوُّر واضح لكيفية إنهاء الصراع في اليمن، وإنهاء تهديد الحوثيين، على ذات النحو الذي فعلته في الصراع حول إقليم قره باغ بين أذربيجان وأرمينيا، وهو ما يفرض مزيداً من التحديات الاستراتيجية على إيران، التي تجد نفسها في واقع صعب للغاية بعد عودة اللاعب التركي.
كما أن هذا التقارب سيكون له تداعٍ مهمّ على الساحة السورية، وقد يشكّل مدخلاً لإعادة تعريف تركيا لنظام بشار الأسد حليف طهران، سواء على مستوى مسارات أستانة، أو وبالشكل الذي يمهّد لتسهيل عملية عودته إلى الجامعة العربية، خصوصاً أن دول الخليج بدأت تولي اهتماماً كبيراً اليوم لاحتواء النفوذ الإيراني على دمشق، وهو هدف يجد صداه في إسرائيل أيضاً، وعلى الرغم من أن مسار تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق لا يزال بعيداً، فإن قيام إيران بتوظيف PKK الإرهابي والتنظيمات الإرهابية المرتبطة به في شمال شرق سوريا، قد تعيد تركيا تقييم المشهد التركي-الإيراني في سوريا.
وبذات السياق واجهت تركيا في مرحلة مابعد داعش تحديات كبيرة في مناطق شمال العراق، تحديداً في نينوى وكركوك ومحيط إقليم كردستان العراق، حيث تزايد نفوذ الفصائل المسلحة الموالية لإيران فيها، وبدأت القوات التركية الموجودة في معسكر بعشيقة في نينوى تشهد تصاعداً في أعمال الهجمات الصاروخية من قبل هذه الفصائل، خصوصاً بعد موقف تركيا ودعمها نتائج الانتخابات والتحالف الذي يجمع مقتدى الصدر مع السنة والأكراد، وبالشكل الذي دفع حلفاء إيران (الخاسرين في الانتخابات) إلى تصعيد اللهجة الخطابية بالضد من تركيا، ومن ثم فإن التقارب الأخير قد يعطي أكثر من سبب لإعادة تشكيل العلاقات التركية-الإيرانية في العراق أيضاً.
أما على مستوى العلاقات الخليجية الإيرانية، فعلى الرغم من المبادرات الحوارية الأخيرة التي جرت بين السعودية والإمارات من جهة، وإيران من جهة أخرى، فإنه حتى اللحظة لم تُترجَم هذه الحوارات على شكل مبادرات سياسية فاعلة على أرض الواقع، إذ لا تزال الهجمات الصاروخية والهجمات بالطائرات المسيَّرة تستهدف العمق الإماراتي والسعودي، عبر حلفاء إيران في العراق أو اليمن، كما أن حرب الوكالة لا تزال مستمرة بين الطرفين في سوريا، وهو ما يؤشر إلى أن نجاح دول الخليج في استثمار التقارب مع تركيا، تحديداً على المستوى الأمني، قد ينعكس سلباً على إيران التي تمكنت طوال الفترة الماضية من الاستثمار في الخلافات التركية-الخليجية
كيف ستتفاعل إيران مع هذا التقارب؟
لا تتوقف الخشية الإيرانية على التقارب التركي مع دول الخليج فحسب، بل إن هذا التقارب يمثّل في أحد جوانبه جزءاً من جهد إقليمي أوسع تقوم به تركيا، يستهدف إسرائيل أيضاً، فقد أعلنت تركيا عن زيارة للرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لأنقرة في الفترة المقبلة، خصوصاً أن هذه الزيارة تأتي مترافقة مع تصاعد التنسيق الاستخباري بين تركيا وإسرائيل لمكافحة الأعمال الاستخبارية الإيرانية في تركيا، وهو ما تَحقَّق بعد نجاح هذا التنسيق في تفكيك خلية استخبارية إيرانية كانت تهدف إلى اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي-التركي يائير غيلر الأسبوع الماضي، ردّاً على اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده العام الماضي.
والأكثر من ذلك أن الخشية الإيرانية تتمثل اليوم بأن الاندفاع التركي نحو العمق الخليجي، إلى جانب كونه استراتيجية تركية عُليا، لتأسيس شراكات استراتيجية واسعة النطاق مع دول الخليج، فإنه يأتي في سياق تناغم تركي-أمريكي أيضاً، تحديداً على مستوى الملف الأوكراني، وتقديم معلومات استخبارية لاغتيال زعيم تنظيم داعش عبد الله قرداش، وتوترات مع روسيا، بما قد يعطي تركيا دفعة قوية لتحقيق مزيد من الاختراقات الإقليمية على حساب إيران في المرحلة المقبلة.
إذ إن إيران تجد في ملفّ النفوذ الإقليمي أحد أبرز الأوراق التي تراهن عليها في المفاوضات النووية الجارية في فيينا، للتأثير في قناعات الولايات المتحدة من أجل الحصول على صفقة نووية مربحة، ونجاح تركيا في تحييد هذا النفوذ، عبر زيادة قدرة الردع العسكري لدول الخليج عبر صفقات دفاعية واسعة، قد تجعل إيران تخسر ورقة مهمة في مفاوضاتها النووية، تحديداً في الساحتين العراقية واليمنية، أضف إلى ذلك أن إيران تنظر إلى أن "دبلوماسية المسيَّرات التركية" قد تُنهِي مسألة التهديد المستمر الذي تعيشه دول الخليج من المسيرات التي يستخدمها حلفاء إيران، إذ لا تقتصر القدرة التركية على الطائرات المسيرة فحسب، بل تتضمن احتواء خطر الطيران المسيَّر المعادي، وهو تقنية تطمح دول الخليج إلى الحصول عليها من تركيا، من أجل ردع الأعمال العدائية لحلفاء إيران، وهو وما تخشى منه الأخيرة.
إن استمرار الأعمال العدائية لحلفاء إيران، يعني أن إيران لا تزال تراهن على خيار التصعيد الأمني كمدخل للاستثمار السياسي، وهو خيار مرجَّح للتعامل الإيراني مع التقارب التركي الخليجي الأخير، فيما لو أتت ثمار هذا التقارب بعكس ما تتمناه إيران، فعلى الرغم من أن التقارب الأخير قدم رسالة إيجابية لإيران، عبر اقتراح مشروع ربط برّي يربط تركيا بالإمارات عبر إيران، يربط مدينتَي إسكندرون جنوبي تركيا، والشارقة شمالي الإمارات، إلا أن ذلك قد لا يكون كافياً لامتصاص مخاوف إيران المحتمَلة، إذ تنظر باهتمام بالغ إلى نفوذها الإقليمي، واعتباره الجزء الرئيسي في توسع حركة تجارتها الخارجية، عبر نجاح حلفائها في تمكينها من اختراق الأسواق والتعاملات التجارية والمصرفية في البلدان التي توجد فيها، ومن ثم فإنه من غير المتوقع أن تتجاوز إيران نظرة الشكّ من هذا التقارب، خصوصاً أنها تعتبره موجَّهاً بالضدّ من هذا النفوذ.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.