ضمن دعايته للحرب التي يشنها ضد قطاع غزة منذ حوالي ثلاثة أشهر، نشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مقالاً في صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2023 بعنوان "متطلباتنا الأساسية الثلاثة للسلام".
وفي مقاله هذا لخص نتنياهو رؤيته لإحلال السلام في الأراضي الفلسطينية ضمن ثلاثة مطالب أساسية، وهي تدمير حركة حماس، ونزع سلاح غزة، والقضاء على ما سماه "التطرف" في المجتمع الفلسطيني برمته، واضعاً هذه النقاط الثلاثة شروطاً استباقيةً لأي حل سياسي.
من يقرأ المقال في الحقيقة يرى كميةً غير معقولة من الكذب والدعاية المضادة السطحية، ناهيك عن وضع شروط مستحيلة للوصول إلى ما يسميه نتنياهو سلاماً، وهو في الحقيقة ليس أكثر من فرض شروط استسلام مذل على الفلسطينيين، ويؤكد نتنياهو نفسه هذا التوجه حين يقارن رؤيته لكيفية التعامل مع الفلسطينيين بالتعامل مع ألمانيا النازية واليابان بعد استسلامها في الحرب العالمية الثانية.
وهو بذلك يكشف أنه لا يتحدث عن سلامٍ أكثر مما يحاول فرض شروط منتصرٍ في حربٍ هو في الحقيقة الخاسر فيها حتى الآن بشهادة الخبراء، ولهذا فإن القارئ لا يستطيع إخفاء استغرابه من مستوى الانفصال عن الواقع الذي يعيشه نتنياهو أو على الأقل يريد لنا أن نعيشه معه.
وهذا أول سبب يدعونا للقول إن ما يطرحه نتنياهو في هذا المقال مستحيل التطبيق، فهو قد خسر الحرب بالفعل منذ بدايتها يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول؛ لأن إسرائيل لن تستطيع مهما فعلت من تدميرٍ وقتلٍ وتشريدٍ محوَ العار الذي لحق جيشها الذي تهشمت أسطورته في ذلك اليوم، والمهزوم في المعركة لا يفرض الشروط، بخاصة إذا كانت مستحيلة التطبيق.
ولتبيين كون هذه الشروط مستحيلة التطبيق نأتي عليها بالتفصيل:
أما الشرط الأول الذي وضعه نتنياهو وهو تدمير حركة حماس، فناهيك من كمية الادعاءات الباهتة التي يكررها نتنياهو حول اتخاذ حماس المدنيين في غزة دروعاً بشريةً ومنعها المدنيين من التحرك باتجاه ما تسميه إسرائيل "مناطق آمنة"، والتي ثبت كذبها بالمناسبة، بعد العدد الهائل من الضحايا الذين قتلتهم إسرائيل بعد نزوحهم إلى تلك المناطق، وتشبيه حماس بتنظيم "داعش" الإرهابي كما دأبت إسرائيل منذ بداية الحرب، لو تركنا كل ذلك وركزنا في فكرة نتنياهو التي يطرحها حول تدمير حركة حماس لوجدنا أن هذه الفكرة مجرد وهم.
ولن أناقش هنا فكرة كون حماس حركة تحرر وطني كما صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أم حركةً إرهابيةً كما يردد نتنياهو وحلفاؤه، ولكن لو أخذنا الموضوع من منطلقٍ عملي، لرأينا فرقاً جوهرياً بين ما يطرحه نتنياهو وبين الواقع على الأرض؛ فحركة حماس ليست تنظيماً قادماً من خارج غزة، ولم يأتِ أفرادها من خارج غزة وليسوا غرباء عنها.
إن حماس ابنة غزة، نشأت فيها وجميع أفرادها وقواتها هم من أبناء القطاع، وهؤلاء هم أبناء العائلات التي تقتلها إسرائيل كل يوم، فكيف يتصور نتنياهو أنه يمكن محو حماس من الوجود ويتصور ببساطةٍ تخلي العائلات الفلسطينية في غزة عن أبنائها الذين يقاتلون في صفوف حماس ضد الجيش الإسرائيلي الذي يقاتل بدوره أبناءهم؟ هذه النقطة الجوهرية تعني أن القضاء على حماس عملياً يستلزم القضاء على المجتمع الفلسطيني في غزة برمته؛ لأنه يشكل الحاضنة الطبيعية لحماس، وهذا مستحيل التطبيق عملياً.
أما الشرط الثاني الذي وضعه نتنياهو، وهو نزع سلاح غزة، فإنه مستحيل التطبيق ببساطة لأن سلاح غزة يجري تصنيعه الآن داخل القطاع، ومن الصعب جداً -إنْ لم يكن من المستحيل- تصور تخلي الفلسطينيين في غزة عن سلاحهم بينما يرون الجيش الإسرائيلي يهاجمهم يومياً ويضيق عليهم حياتهم منذ 17 عاماً، فهل يتصور عاقل أن شعباً يمكن أن يسلّم سلاحه الذي يصنعه بنفسه إلى من يقتله رغبةً في السلام معه؟
الطريف هنا أن نتنياهو حتى عندما يطرح هذا الشرط لا يعتبر أن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية يمكنها أن تنفذه، بل إنه يهاجم السلطة نفسها رغم تنسيقها الأمني المستمر معه في الضفة الغربية، ويكشف لاحقاً في مقاله عن الهدف الحقيقي الذي يريده من وراء هذا الشرط وهو احتلال غزة بالفعل والسيطرة عليها مباشرةً من قبل الجيش الإسرائيلي.
الغريب هنا أن نتنياهو يعتبر أن الجيش الإسرائيلي هو الوحيد القادر على نزع سلاح غزة، بينما هو غير قادر إلى اليوم على الوصول إلى حل عقدة الأنفاق ومنع إطلاق الصواريخ من المناطق التي يدعي أنه يسيطر عليها شمال غزة.
وأما الشرط الثالث، وهو القضاء على ما يسميه "التطرف" في المجتمع الفلسطيني، فإنه لا يخفي سراً حين يعطي مثالاً على ذلك من تاريخ الحرب العالمية الثانية في ألمانيا واليابان بعد استسلامهما، إذ يدعي أنه يجب أن يجري ما يشبه عملية "غسيل دماغ" للشعب الفلسطيني في المدارس والمساجد وغيرها لإقناعه بالكف عن الدعوة إلى "القضاء على اليهود".
في الحقيقة، إن هذا الكلام مستحيل لأنه غير موجود أصلاً، فالشعب الفلسطيني لا يدعو للقضاء على اليهود ولا يربي أبناءه على ذلك، بل بالعكس، اليهود السامريون يعيشون اليوم في نابلس جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسلمين والمسيحيين.
إنْ كان هناك من يعاني من عقدة التطرف والاستعلاء فهو الطرف الإسرائيلي الذي يربي أبناءه على بغض الآخر والتخلص منه، وهو ما يظهر حتى في القوانين العنصرية الإسرائيلية وآخرها القانون الأساسي لعام 2018 (إسرائيل دولة يهودية)، الذي ينص على إعطاء الحقوق لليهود فقط لا غيرهم.
إن إسرائيل هي نظام الفصل العنصري الذي يجب أن تُغيَّر الأسس العنصرية التي يقوم عليها، وفي الحقيقة إن نتنياهو لا يهاجم هنا المجتمع الفلسطيني بقدر ما يهاجم العقيدة الإسلامية ويحاول وسمها بالتطرف.
وحتى تشدقه باتفاقات أبراهام مثالاً على ما يتكلم عنه هو أمر واهمٌ، فقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن السلام الذي يتكلم عنه نتنياهو انعقد مع حكوماتٍ لا مع شعوب، أما الشعوب فهي حية، والأجدر بنتنياهو أن يبحث لنفسه عن مخرج ينزله عن الشجرة التي صعد إليها ولم يتمكن حتى اليوم من النزول عنها، بسبب غروره وكبريائه، بدلاً من أن يطرح الشروط الخيالية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.