شكّل المطلب الذي تقدمت به وزارة العدل الروسية بإغلاق مقارّ الوكالة اليهودية في روسيا ذروة التوترات المتلاحقة في العلاقات الإسرائيلية-الروسية في الأشهر الأخيرة بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية. ويعزو الكثيرون في إسرائيل هذا المطلب الذي يبدو "قانونياً" بحتاً إلى هذه التوترات السياسية والأمنية والعسكرية، مما يشير إلى جملة من الاتجاهات العميقة التي مرّت بها علاقات موسكو وتل أبيب في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ الحرب الأوكرانية.
صحيح أن المسبّبات "الشكلية" للقرار الروسي بإغلاق مكاتب الوكالة اليهودية ذات جوانب إدارية إجرائية، تتعلق بعدم رضا موسكو عن أنشطة الوكالة، وقد بدأت في وقت مبكر في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ومن بينها اتهام السلطات الروسية للوكالة بأنها تعمل على تهجير اليهود الروس من ذوي الكفاءات العلمية والمالية إلى إسرائيل، لكنها ليست الأزمة الأخيرة بينهما، بل إنها أتت ضمن سلسلة من الأزمات السابقة واللاحقة التي قد تستدعي من إسرائيل أن تستعدّ لأزمات قادمة في الطريق، لا سيما في ظل تقلُّص مساحة المناورة لديها أمام الكرملين.
ورغم أن الوكالة اليهودية ليست مؤسسة حكومية رسمية في إسرائيل، لكنها منظمة شبه حكومية، فإنها شكّلَت هدفاً مناسباً لممارسة الضغوط الروسية على إسرائيل من خلالها. ورغم أن المحكمة في موسكو تتعامل رسمياً مع قضية روسية داخلية، وإسرائيل ليست طرفاً فيها، فإن وراء الأكمة ما وراءها، على اعتبار أنه في خلفية الضغوط الروسية على "الوكالة" يكمن سبب ابتعاد إسرائيل التدريجي عنها.
لا يُخفي الإسرائيليون في ذروة هذه الأزمة مع روسيا أن تَذرُّعها بمسألة الوكالة اليهودية يشير إلى رغبتها بممارسة ضغط مستمرّ على إسرائيل لانتزاع مواقف سياسية جديدة منها غير السائدة مؤخراً، بخاصة في خضمّ تطورات الحرب الأوكرانية، والانحياز التصاعدي في الموقف الإسرائيلي لصالح واشنطن، انطلاقاً من فهم إسرائيلي مفاده أن استقلال المحاكم في روسيا مسألة على الورق فقط، وأن المنظومة القضائية الروسية ستقوم بما يوعز إليها بوتين بفعله، وفي النهاية إذا قرّرَت موسكو حقّاً إنهاء نشاط الوكالة اليهودية لديها، فإن إسرائيل مُطالَبة بالاستعداد لأزمة طويلة الأمد.
صحيح أن إسرائيل تدرك أن الدخول في مواجهة مع روسيا يعني تكلفة سياسية وعسكرية باهظة، لكنها لا تنوي إبداء تنازلات "علنية" على الأقلّ، رغم ما قد نشهده من صراخ وصوت عالٍ من المسؤولين الإسرائيليين، لكن الأوساط الإسرائيلية السياسية بدأت ترفع أصواتها بضرورة نقل معالجة الأزمة مع الروس إلى قنوات دبلوماسية سرية، رغم المخاوف الإسرائيلية من أن ذلك قد يُنظَر إليه على أنه ضعف، وقد يشجع موسكو على مزيد من ابتزاز تل أبيب في ملفات أخرى: إقليمية ودولية.
في المقابل، فإن التوتر المتصاعد في العلاقات الروسية-الإسرائيلية يثبت أن المستقبل القريب سيشهد المزيد من المراسيم الصادرة عن بوتين ضد إسرائيل، في ظلّ التباعد القائم بين موسكو وتل أبيب، بسبب المواقف الإسرائيلية المعادية للسياسة الروسية في العديد من الملفات: أوكرانيا وإيران وسوريا، وهو ما تَجلَّى بصورة لافتة في قمة طهران، التي تركت أصداء سلبية في تل أبيب، واعتبرتها رداً روسياً على جولة بايدن في المنطقة.
من جهة أخرى، ساهم سبب لافت في إذكاء نار التوتر الروسي-الإسرائيلي، يتعلق بتغيُّر شخصية صُنَّاع القرار الإسرائيلي، لا سيما مع طيّ صفحة بنيامين نتنياهو الذي سجّل أكبر عدد من الزيارات للكرملين قياساً إلى غيره من زعماء العالم، في حين حاول نفتالي بينيت إجراء وساطة فاشلة بين موسكو وكييف لوقف الحرب المشتعلة.
لكن يائير لابيد يتصرف بشكل مختلف كلياً عنهما، فهو ذو مواقف مؤيدة للغرب على طول الخط، ومناهض للروس بلا تردُّد، بعكس ما جرت عليه العادة الإسرائيلية في محاولة كسب كل المواقف دفعة واحدة، حتى من الأطراف المتناقضة، مما دفع العديد من المحافل الإسرائيلية للحديث عن مسؤولية شخصية تتعلق بشخصية لابيد في إشعال الخلاف المتفاقم مع بوتين، ربما بسبب قلة خبرته، وعدم فهمه في الشؤون الخارجية، ولذلك بدا لافتاً تزامن أزمة الوكالة اليهودية في روسيا في الأيام الأخيرة مع ما نُقل عن السفير الروسي في تل أبيب من قوله إن دخول يائير لابيد إلى مكتب رئاسة الوزراء "يخلق صعوبات" في العلاقات مع موسكو، بسبب تصريحاته القاسية ضد الغزو الروسي لأوكرانيا حين كان وزيراً للخارجية.
ورغم نفي السفير لهذا الكلام المنسوب إليه، فلا أحد في إسرائيل اشترى هذا النفي، لا سيما وأن العديد من المعطيات والمؤشرات يؤكد التخوف الروسي من صعود لابيد إلى منصب رئيس الوزراء، بسبب أجندته المليئة بالمصالح المتضاربة أمام بوتين، وعلى رأسها قرب إسرائيل من الغرب، وصراعها ضد إيران، التي زارها بوتين مؤخراً.
لم يعُد سراً أن بوتين ذاته ومن خلال الأزمات المتلاحقة مع إسرائيل يريد منها أن تنأى بنفسها عن عواصم الغرب التي تخوض صراعا مريرا مع موسكو، بخاصة أن المواقف الإسرائيلية خلال أشهر الحرب في أوكرانيا أظهرت انحيازاً سافراً لا تخطئه العين باتجاه المنظومة الغربية، وإن كان هذا الانحياز لم يجد توافقاً بين مختلف الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية. فالساسة بطبعهم منحازون للولايات المتحدة، أما العسكر فإن لديهم مصالح مع الجيش الأحمر، لا سيما في سوريا، وليسوا بوارد الاستغناء عنها، لأنه ليس من مصلحة إسرائيل أن تتحوّل روسيا من دولة متعاطفة معها إلى دولة معادية، وبالتالي الإضرار بمصالحها الأمنية المهمة، لا سيما وأن بوتين يعرف نقاط الضعف التي يمكنه من خلالها ضرب إسرائيل بأسرع شكل، وقد تَبيَّن له أن نشاط الوكالة اليهودية في روسيا هو الأكثر إيلاماً وخطورة، لأسباب تتعلق بالهجرات اليهودية.
فقد كشفت الأرقام الإسرائيلية أنه منذ بداية عام 2022 هاجر ما لا يقلّ عن 19168 يهودياً إلى إسرائيل من روسيا، مقارنة بـ7824 في عام 2021 بأكمله، وفيما كان عدد المهاجرين اليهود من روسيا إلى إسرائيل قبل حرب أوكرانيا بلغ 743 مهاجراً جديداً شهرياً، قفز العدد في مارس مباشرة إلى 3361 مهاجراً، وبلغ عدداً قياسياً في مايو/أيار وصل إلى 4433 مهاجراً، وحتى كتابة هذه السطور، هاجر 2205 يهود إلى إسرائيل في يوليو/تموز، وهذه أرقام لا تُقارَن بزيادتها مع أي دولة أخرى، لأن 48% من المهاجرين اليهود لهذا العام من روسيا، وهي نسبة تفوق جميع دول العالم التي يهاجر منها اليهود.
رغم المحاولات الإسرائيلية الجارية لخفض منسوب التصعيد القائم مع موسكو، فإن القناعة السائدة في تل أبيب أن إغلاق التوتر المتصاعد مع موسكو سوف يستغرق وقتاً، والأزمة لن تُحَلّ صباح الغد، ولذلك انخرطت طواقم إسرائيلية من مختلف الوزارات ذات العلاقة، بجانب الأجهزة الأمنية، لإعداد خطة عمل لإدارة الأزمة بتكتُّم، وبعيداً عن الإعلام.
مع أن التقديرات الإسرائيلية اليوم لا تنكر تَخوُّفها من صدور المزيد من المراسيم في روسيا من قبل بوتين ضد إسرائيل، بما قد يذكّرها بأيام الستار الحديدي والحرب الباردة، فقد لا تتفاجأ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في الأيام المقبلة، إذا أُرسلَت رسالة من موسكو إلى تل أبيب مفادها أن روسيا تنظر بجدية إلى أي نشاط عدواني إسرائيلي على الأراضي السورية، وهنا بيت القصيد، إذ سيدخل الجانبان من جديد في أزمة سياسية وعسكرية، تتجاوزهما فقط، إلى حد دخول جهات وقوى إقليمية ودولية أخرى، مما قد يعوق عمل وهجمات الطيران الإسرائيلي المتواصل على سوريا، خصوصاً أن تل أبيب قد أكدت أن منظومة S-300 الروسية العاملة في سوريا قد استُخدمت ضد طائراتها الحربية المُغِيرة على أهداف في العمق السوري.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.