من حيث الشكل لا علاقة بين الأزمات التي يعاني منها كلا البلدين، فلا حدود مشتركة بينهما، والفوارق الجغرافية والجيوسياسية والتركيبة الطائفية بينهما كبيرة، رغم ذلك لا يسع المراقب إلا أن يجد العديد من العناصر المشتركة بين البلدين.
فالعراق بلد كبير شاسع، مساحته تعادل 45 ضعفاً مساحة لبنان، وعدد سكانه 10 أضعاف سكان لبنان، وهو ثاني أكبر منتج للنفط الخام في منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، بمتوسط إنتاج 4.6 ملايين برميل يومياً، ويعتمد على إيرادات النفط لتمويل ما يصل إلى 95 بالمئة من نفقات الدولة.
بينما لبنان بلد صغير نسبياً، سكانه بضعة ملايين نسمة، جزء مقدّر منهم من النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين، وهو لا يملك أي ثروات طبيعية تساهم في تمويل ميزانية الدولة، اقتصاده ريعي قائم بشكل كبير على السياحة والخدمات التي تعتمد بدورها على الاستقرار لجذب السياح، وهو ما يفتقده معظم الأوقات. هذه الفوارق بين البلدين تجعل من المستبعد أن يتشابها في أسباب الأزمات التي يرزح تحتها العراقيون واللبنانيون، لكن الواقع يكشف العكس.
ربما تكون الأزمة الاقتصادية أبرز التحديات التي يواجهها البلدان. فرغم الفارق بين حجم اقتصاد العراق واقتصاد لبنان، فإن الأسباب التي تقف وراء الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها بغداد لا تختلف كثيراً عن أسباب الأزمة في بيروت، ويمكن اختصارها بتفشي الفساد في مؤسسات السلطة، وتحكّم الطائفية والمذهبية بمقدّرات البلاد، وتسلّط الأحزاب والمليشيات، والتوظيف العشوائي، الأمر الذي ينعكس سلباً على خزينة البلدين.
فحسب صحيفة فورين بوليسي، ارتفع عدد العاملين في القطاع العام في العراق ثلاثة أضعاف منذ 2004، كما ارتفعت الرواتب التي تدفعها الحكومة بنسبة 400%عمَّا كانت عليه قبل 15 عاماً، ومن المعروف أن مئات آلاف الموظفين في العراق يتقاضون رواتب بلا عمل، ويُطلق عليهم العراقيون اسم "الأشباح".
هذا التوسع في حجم القطاع العام في عهود الحكومات المتعاقبة أدّى إلى أن يكون مجموع الإيرادات التي يحققها العراق غير كافٍ لتسديد النفقات، أي رواتب القطاع العام، والمعاشات التعاقدية، والمساعدات الغذائية، وكلفة برامج الرعاية الاجتماعية. وباتت الدولة بحاجة إلى إنفاق مبالغ تفوق إيراداتها لتغطية هذه النفقات، وإبعاد شبح العوز عن أكثرية الشعب العراقي.
أما في لبنان، فالفساد والمحسوبيات والسرقات في مؤسسات الدولة شائعة ومألوفة. فاللبنانيون يتابعون يومياً قضايا فساد جديدة تنشرها وسائل الإعلام بالأرقام والوثائق، ويقف القضاء الذي تتحكم فيه الطبقة السياسية موقف المتفرج، فلا يتحرك القاضي إلا بتوجيه من مرجعيته السياسية.
إلى جانب ذلك، يعاني لبنان من تضخّم القطاع العام بشكل بات يستنزف موازنة الدولة، في ظل تركيبة طائفية معقدة، تجعل من كل وظيفة محسوبة على طائفة بعينها، يجب أن تقابلها وظيفة أو وظائف مماثلة لطوائف أخرى. هذا الواقع جعل القطاع العام كقطعة جبنة تتقاسمه القوى السياسية دون النظر إلى حاجة هذا القطاع أو عدم حاجته. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أصدر مجلس النواب اللبناني قراراً منع بموجبه التوظيف في القطاع العام بشكل نهائي، ليتبيّن بعد أشهر من صدور القانون أن القوى السياسية قامت بتوظيف خمسة آلاف من مناصريها ومؤيّديها في مؤسسات الدولة.
لم تكتفِ السلطة بالتوظيفات العشوائية، بل أقرت قبل أشهر من موعد الانتخابات النيابية قانوناً رفعت بموجبه رواتب القطاع العام بنسبة قاربت 60% دون تأمين تمويل، الأمر الذي وُصف بأنه "رشوة انتخابية" للبنانيين، الأمر الذي ساهم في تعجيل موعد الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه لبنان مؤخراً.
الأزمة الاقتصادية جراء فساد السلطة ليست العامل المشترك الوحيد بين العراق ولبنان، فكلا البلدين يعاني من أزمة حادّة في تأمين التيار الكهربائي رغم اختلاف أسباب هذه الأزمة.
ففي العراق أدّى تردّي التغذية بالطاقة الكهربائية وانقطاعها المستمر إلى استقالة وزير الكهرباء من حكومة مصطفى الكاظمي، بعدما تصاعد الانقطاع بسبب استهداف أبراج الطاقة وضرب خطوط إمداداتها في مناطق مختلفة، الأمر الذي أدّى لأعطال وانقطاعات متكررة في إمدادات الكهرباء لمحافظات عراقية عديدة. تزامن ذلك مع ارتفاع درجات الحرارة وانحسار كمية الغاز الإيراني المستورد لتشغيل محطات الكهرباء.
أزمة الكهرباء في لبنان أسبابها مختلفة. فالدولة عاجزة عن دفع المستحقات المالية لتأمين مادة الفيول الضروري لتشغيل معامل الإنتاج بسبب الانهيار النقدي وإفلاس الخزينة، ممَّا يتسبب في تأخر وصول شحنات الفيول وفرض تقنين قاسٍ للتيار الكهربائي.
إضافة إلى ذلك، السلطة باتت عاجزة عن إجراء الصيانة الضرورية لمعامل الإنتاج بسبب عدم توفر اعتمادات مالية، علماً أن أزمة الكهرباء في لبنان ليست جديدة ولا هي مرتبطة بالأزمة الاقتصادية والنقدية. فالطاقة التي تنتجها المعامل لا تكفي لتلبية التزايد المستمر في استهلاك الطاقة، في ظل التعديات على شبكة الكهرباء وانتشار عشرات مخيمات اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية التي تؤوي قرابة مليون ونصف مليون نازح يستفيدون من شبكة الكهرباء.هذا الواقع أدّى لتراجع كبير في تأمين التيار الكهربائي.
حلّ أزمة انقطاع الكهرباء في العراق قد يكون واضح المعالم من خلال وقف استهدف أبراج الطاقة وخطوط الإمدادات بتأمين حمايتها، والتواصل مع طهران لعدم إنقاص كمية الغاز المقدمة لمحطات الكهرباء، في حين أن الحلّ في لبنان يبدو أكثر تعقيداً في ظلّ عدم معرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء العجز المتواصل في تأمين الاعتمادات المالية لإنتاج الطاقة، علماً أن قرابة نصف الدين العام المترتب على خزينة الدولة سببه قطاع الكهرباء.
من الأزمات التي يتشارك في المعاناة منها كل من العراق ولبنان الانفلات الأمني. فنشهد ارتكاب جرائم قتل واغتيال ومواجهات مسلحة بين فصائل غير منضبطة. وفي كلا البلدين هناك مليشيات مسلحة تمّ منحها الغطاء من السلطة.
في العراق تم ضمّ فصائل الحشد الشعبي لمؤسسات الدولة، وتأمين رواتب عناصرها ساهم في زيادة الضغط على خزينة الدولة، وفي لبنان يوجد حزب الله الذي يملك قدرات عسكرية في العتاد والعدة يتفوق فيها على قدرات الجيش اللبناني، وتمّت "شرعنة" وجوده وتغطية سلاحه في بيانات الحكومة المتعاقبة. العامل المشترك الآخر المتعلق بهذه المليشيات أنها تتبع لطهران، وتعمل على تنفيذ السياسة الإيرانية بشكل واضح ومُعلن.
أزمات العراق تشكل تحدّياً للإدارة الأمريكية الجديدة، التي ما زالت تملك نفوذاً كبيراً في بغداد. وفي هذا الإطار أُعلن عن استقبال الرئيس الأمريكي جو بايدن لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الأسبوع المقبل في البيت الأبيض، وذلك "لتعزيز الشراكة الاستراتيجية".
في المقابل، أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية عقد مؤتمر دعم دولي جديد للبنان في 4 أغسطس/آب المقبل، في ذكرى انفجار مرفأ بيروت بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمم المتحدة. وفي حين تتواصل الحكومة العراقية مع صندوق النقد الدولي لإيجاد سبل لتقديم الدعم المالي وإقرار إصلاحات تساعد الحكومة العراقية على مواجهة أزماتها، ينتظر صندوق النقد السلطة في لبنان للاتفاق على تشكيل حكومة جديدة للتفاوض معها لتقديم المساعدة.
جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.