أمور كثيرة تميّزت بها العملية الانتخابية، وشكّلَت علامة فارقة جعلتها مختلفة عن كل الاستحقاقات الانتخابية السابقة منذ اتفاق الطائف. أبرز هذه الميزات، نجاح عدد مقدَّر من المستقلين بدخول مجلس النواب، بعيداً عن الأحزاب السياسية، والخلفيات الطائفية، ودون أن يكونوا متموّلين نجحوا بفضل أموالهم من تكريس زعامة شعبية. المستقلون الذين يدور عددهم حول 15 نائباً رفعوا لواء التغيير ونشطوا بعد الحراك الشعبي الواسع الذي شهده لبنان قبل عامين، والذي تلا الانهيار النقدي والاقتصادي.
النجاح الذي حقّقه المستقلون لم ينحصر بمنطقة أو طائفة، بل توزّع على العديد من المناطق والطوائف. وحدها الطائفة الشيعية استطاعت من خلال إحكام التحالف الانتخابي بين حزب الله وحركة أمل منع أي تسلل إليها من مستقلّين أو غيرهم.
لكن هذا لم يمنع نجاح نائبَيْن مستقلَّيْن في دائرتين انتخابيتين محسوبتين على الناخبين الشيعة، لكن فوزهما لم يكُن على مقاعد شيعية.
ولعلّ التوزُّع الجغرافي والطائفي يشكّل أبرز التحديات التي يواجهها النواب المستقلون، فإذا نجحوا بالتلاقي والتوافق والتعاون على تشكيل كتلة نيابية وازنة ومتماسكة وتقديم برنامج إصلاحي، فإن هذه الكتلة ستشكّل خطراً حقيقياً على السلطة القائمة المشكَّلة من أحزاب وقوى سياسية.
أما إذا دخل النواب المستقلون قبة البرلمان منفردين بلا أي رؤية أو مشروع مشترك، فلا يُنتظر أن يكون لهم تأثير في أداء السلطة السياسية، وسينحصر دورهم بتصريحات ومواقف ناقدة لأداء السلطة دون قدرة على تغييره.
لكن على الطرف الآخر، فإن القوى والأحزاب التي تشكّل غالبية مجلس النواب ستواجه أزمة في التعامل مع هؤلاء النواب، فأحزاب السلطة اعتادت إبرام تسويات لتمرير ما تريد، وهي اليوم تواجه كتلة قد تكون منسجمة وقد لا تكون، لكنها في جميع الأحوال لن تستجيب لإرادة من يسعى لعقد الصفقات وإنجاز التسويات لتحقيق مصالحها.
الميزة الثانية للانتخابات تمثلت بلملمة آثار اعتكاف رئيس الوزراء السابق سعد الحريري عن العمل السياسي على قواعده الشعبية التي اعتادت التصويت له ولخياراته السياسية. اعتكاف سعد الحريري الذي شكّل طوال سبعة عشر عاماً زعيماً وممثّلاً للطائفة السُّنِّية في لبنان، ورثها عن والده رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005، وتوجيه مناصريه لمقاطعة الانتخابات لم تلقَ استجابة كبيرة من جمهوره، فنزل الناخبون خصوصاً في المناطق التي تشكّل حاضنة شعبية له للاقتراع بكثافة.
اعتكاف الحريري ساهم من جانب آخر بتعزيز حظوظ المستقلين وساعد بنجاحهم في الانتخابات. فالكتلة الناخبة التي لم تستجب لدعوة الحريري بالمقاطعة، لم تجد بديلاً من القوى السياسية والأحزاب للاقتراع لصالحها، فصوّتت لصالح المرشحين المستقلين. صحيح أن غياب الحريري أربك الساحة السنّية، لكن المرحلة المقبلة ستشهد إعادة لترتيبها، بخاصة أن الانتخابات نجحت بإظهار شخصيات وأحزاب كان وجود الحريري يطغى عليها، ولا يترك لها مساحة للظهور.
الميزة الثالثة للانتخابات النيابية في لبنان تمثلت بتغيُّر موازين القوى لدى المسيحيين، فمنذ خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005 نجح التيار الوطني الحر بزعامة رئيس الجمهورية ميشال عون في أن يكون الممثل الأكبر للمسيحيين، وتَزعّم تياره في الانتخابات الماضية عام 2018 أكبر كتلة في المجلس النيابي.
هذه الزعامة باتت اليوم تحتاج إلى مراجعة، بعدما كشفت نتائج الانتخابات النيابية عن تراجع في حجم الكتلة النيابية للتيار بزعامة جبران باسيل لصالح القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، الذي بات منافساً جدياً على زعامة الساحة المسيحية.
تراجُع تيار رئيس الجمهورية لا يقتصر فقط على عدد المقاعد النيابية التي ساعده حلفاؤه على الفوز ببعضها وتحديداً حزب الله والقوى المؤيدة للنظام السوري، فالأهمّ من ذلك يتمثّل في التراجع الكبير بأعداد الناخبين المسيحيين الذين صوّتوا لصالحه، واختاروا لوائح القوات اللبنانية.
هذا التراجع في الساحة المسيحية أضعف شرعية تمثيل التيار الوطني الحر للساحة المسيحية، وتالياً سيؤثّر في الغطاء المسيحي الذي تَنَعَّم به حزب الله منذ توقيع أمينه العامّ ورقة التفاهم مع رئيس التيار الوطني الحر (رئيس الجمهورية الحالي) عام 2006، مما أعطى الحزب غطاءً مسيحياً كان بأمسّ الحاجة إليه.
الانعكاس الآخر لتراجُع شعبية التيار الوطني الحر يتمثّل في تأثيره في معركة رئاسة الجمهورية. فالرئيس الحالي ميشال عون تنتهي ولايته في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وعقب الانتهاء من تداعيات الانتخابات النيابية، ستتصدر المشهد معركة رئاسة الجمهورية، بخاصة أن رئيس التيار الوطني الحر (صهر رئيس الجمهورية) جبران باسيل يعتبر أنه أبرز المرشحين لخلافة عمّه. لكن التراجع في شعبية حزبه سيُضعِف موقفه وحظوظه في الوصول إلى قصر بعبدا.
الميزة الرابعة للانتخابات تمثلت بهزيمة زعامات وشخصيات من بيوتات سياسية عريقة كانت تشكّل وجوهاً دائمة في مجلس النواب وأركاناً للسلطة السياسية. فعلى سبيل المثال، فيصل كرامي ابن رئيس الوزراء الأسبق عمر كرامي وحفيد الرئيس عبد الحميد كرامي أحد زعماء الاستقلال لم يتمكن من الفوز في مدينة طرابلس.
أمر مشابه حصل في منطقة الشوف التي شهدت هزيمة طلال أرسلان أحد أهم الزعامات الدرزية، ووالده الزعيم مجيد أرسلان من قادة الاستقلال كذلك. الأمر نفسه ينطبق على نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي كان أحد دعائم السلطة ومتحدثاً باسمها في منطقة البقاع.
بعد لملمة آثار عملية الانتخابات النيابية، سيواجه المجلس المنتخَب تحديات واستحقاقات داهمة. أوّل هذه التحديات يتمثل بالاتفاق على تشكيل حكومة جديدة. هذا التحدي قد لا يكون سهلاً في ظلّ التنافر بين القوى الذي أفرزته نتائج الانتخابات.
وإذا تكررت السيناريوهات السابقة، فقد يستغرق اختيار رئيس للحكومة وتشكيل حكومة جديدة أشهراً، قد تمتدّ حتى موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، الأمر الذي يُخشَى أن يؤدي إلى فراغ دستوري في ظلّ استمرار حكومة تصريف الأعمال بالإضافة إلى شغور سُدَّة الرئاسة. لكنّ التحدي الأبرز الذي يواجه المجلس هو التسريع بإصلاحات مطلوبة ضمن خارطة طريق وضعها صندوق النقد الدولي، قد تشكّل البداية لخروج لبنان ومعه اللبنانيون من الانهيار الذي يعانون منه.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.