في الوقت ذاته تبدو إسرائيل أكثر جرأة من ذي قبل في زيادة حدة عملياتها ضد الأهداف والمواقع والشخصيات الإيرانية، ليس في سوريا فقط كما جرت العادة منذ 2013 ضمن استراتيجية "المعركة بين الحروب"، بل في عمق الأراضي الإيرانية هذه المرة، وفي وضح النهار، مما شكّل إحراجاً قاسياً للدولة الإيرانية أمام رأيها العامّ الداخلي، مع أن العقيدة العسكرية والأمنية الإسرائيلية درجت على عدم "وضع الإصبع في العين"، تحاشياً لعدم إجبار الخصم على الرد والانتقام، لكن هذا التغير اللافت في السياسة الإسرائيلية مدعاة لإخضاعه للبحث والدراسة.
أكثر من ذلك، فقد اعتمدت إسرائيل طوال سنوات صراعها مع إيران على سياسة "الغموض" بعدم إعلان مسؤوليتها عن الاغتيالات المتكررة التي طالت أعداداً كبيرة من كبار رموزها النووية والعسكرية، لكنها هذه المرة اتبعت قاعدة "يكاد المريب يقول خذوني"، ويوشك مسؤولوها الحكوميون والعسكريون أن يتبنوا تلك الاغتيالات علانية، سواء بسبب وجود قناعة إسرائيلية لافتة من عدم قدوم ردّ إيراني، لاعتبارات كثيرة، أو رغبة من الساسة الإسرائيليين في توظيف هذه الاغتيالات والهجمات ضدّ إيران في حساباتهم الحزبية الداخلية.
إن تقديم كشف حساب إسرائيلي بأهمّ العمليات والهجمات ضد إيران، الاغتيالات واستهداف المواقع، يؤكّد أنهما مقبلان على مواجهة متصاعدة، دون أن تصل بالضرورة إلى حرب واسعة مفتوحة، تنخرط فيها عدة جبهات في آن واحد، مع أن الأمر لا يقتصر بالضرورة على الحيلولة دون حصول إيران على السلاح النووي فحسب، بل بسبب ما تقول إسرائيل إنه تمدُّد إيراني يتوسع في المنطقة، يكاد يحيط بها من كل الجهات، مما يجعلهما في حالة سباق مع الزمن لمنع الطرف الآخر من تحقيق مآربه.
في الوقت ذاته يبدو لافتاً سلوك الصمت الإيراني على ما يمكن اعتباره "استباحة" إسرائيلية لأراضيها، سواء باغتيال علمائها وضباطها، قتلاً أو تسميماً أو تفجيراً، أو باستهداف المواقع النووية وقوافل الأسلحة المتجهة إلى حزب الله، والقواعد العسكرية المنتشرة في سوريا، مع أن هذه العمليات أظهرت الدولة الإيرانية وأجهزتها الأمنية في حالة لا تُحسدان عليها البتة، فيما الموساد يصطاد أهدافه في مدنها، واحداً تلو الآخر، وكأن المدن الإيرانية تحولت إلى ميادين رماية للتدريب والتجريب أمام ضباط الموساد.
الأخطر في هذه الهجمات الإسرائيلية ضد إيران أنها لم ترد على واحدة منها، باستثناء بعض الهجمات السيبرانية والقرصنة الإلكترونية، رغم ارتفاع ضجيج التهديدات من أعلى المستويات الإيرانية، دون أن تترجَم إلى سلوك ميداني على أرض الواقع، مع العلم أن إيران لديها أذرع وحلفاء في المنطقة يمكنهم أن يردوا عنها ضد إسرائيل، لكن من الواضح أن لكل منهم مشكلاته الداخلية واعتباراته المحلية التي قد تحول دون مهاجمتها، مما دفع إيران في حالة نادرة إلى مهاجمة مبنى في محافظة أربيل شمال العراق قالت إنه يضم قاعدة للموساد، الأمر الذي استدعى صدور ردود فعل عراقية واسعة النطاق تستنكر ما وصفته بـ"انتهاك" إيراني لسيادتها.
ومع أن حزب الله، الحليف الأوثق لإيران، وذراعها المتقدمة في المنطقة لديه من القدرات العسكرية ما يهدد الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وربما أنفقت إيران عليه كل هذه الأموال، وأمدته بكل أسباب القوة والتسليح لمثل هذا اليوم، فإن تراجعه الأخير في الانتخابات النيابية، وتزايد قوة خصومه، وتردي الأوضاع الداخلية في لبنان، فضلاً عن تهديد إسرائيل بإعادته إلى العصر الحجري، كلها عوامل تشكل كوابح أمام الحزب وقيادته، وتدفعه للعدّ إلى العشرة قبل إطلاق أول قذيفة على إسرائيل، التي لا تُبدي هي الأخرى تحمساً لخوض مواجهة مع الحزب لأنها تعلم أنها سوف تتكبد خسائر فادحة، في ضوء ما يحوزه من قدرات صاروخية كفيلة بتحويل أجزاء واسعة من إسرائيل إلى أهداف سهلة في مرماه.
أما المجموعات المسلحة التابعة لإيران في سوريا، فهي تحوز قدرات عسكرية معقولة، فضلاً عن اقترابها من الحدود مع الجولان، ويمكن لها أن تؤذي إسرائيل، إن قررت، لكنها محكومة بالوجود الروسي الذي لن يبدي تساهلاً إزاء أي استهداف لإسرائيل من داخل سوريا، رغم الخلاف المتنامي مؤخراً بين موسكو وتل أبيب حول الموقف من الحرب الأوكرانية، لكن الحديث المتواتر عن انسحاب روسي تدريجي من سوريا قد يفسح المجال أمام أذرع ايران هناك لاستهداف إسرائيلي دون أن تخشى هذه المرة الموانع الروسية.
كل ذلك يؤكد أن ما شهدته الأيام الأخيرة من توترات متصاعدة تجعل الصراع بين إيران وإسرائيل، ومع مرور الوقت، يكسب زخماً متفاقماً، ويجعله أكثر خطورة، لا سيما مع تواتر الأنباء الإسرائيلية بشأن تهديدات إيرانية للإسرائيليين خارج الحدود، من خلال التخطيط لاختطافهم وقتلهم انتقاماً لاغتيال الموساد عدداً من كبار الضباط والعلماء في مختلف الأراضي الإيرانية خلال الأسابيع الأخيرة.
يكشف تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران في الأسابيع الأخيرة في الخلفية تفاقماً للصراع السري بين "خلايا الظل" التابعة للموساد والحرس الثوري الإيراني عموماً، وفيلق القدس خصوصاً، لأنه من منظور واسع يعد ما نفذه الموساد إنجازاً مهماً لإسرائيل في سياق المواجهة المفتوحة أمام إيران، وبجانب الأضرار الجسيمة التي لحقت بها، فإنها تضر بالأساس بهيبة النظام في طهران، وصورة قادته، ما دام الضرب يأتي من طرف واحد، هو إسرائيل، مما يدفع الإيرانيين إلى طرح تساؤلات على قادتهم عن حاجتهم إلى كل هذه الترسانة العسكرية إن لم تستطع كبح جماح الهجمات الإسرائيلية.
في الوقت ذاته، وبعد ما كُشف عنه في الأسابيع الماضية، من الواضح أن تغييراً حدث في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه إيران، من حيث اشتداد الصراع بينهما، ونقل مشاهده إلى قلب طهران، بالتزامن مع زيادة الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تمارَس عليها، وفي الوقت ذاته تعثر المفاوضات النووية في فيينا، وفي هذه الحالة لا يتردد الإسرائيليون في الإشارة إلى أن بعضاً من الأهداف الأساسية لهذه العمليات المتلاحقة يتمثل في إحداث مزيد من التصدعات بين الجمهور الإيراني والنظام، وهو ما انعكس في سلسلة من الاحتجاجات المتزايدة الأخيرة في مواجهة الصعوبات الاقتصادية الشديدة الناجمة عن العقوبات المفروضة عليها منذ عام 2015.
في المقابل، لا يخفي الإيرانيون أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة الموجهة ضد علمائهم وضباطهم ومواقعهم يمثل لهم استهدافاً في "بطنهم الرخوة"، وإن شئت "خاصرتهم الضعيفة"، لا سيما وأن هذه الهجمات يتم شنّها بشكل متزامن، وفي نفس الوقت، وضد مختلف الأهداف، للحد من التطلعات الإيرانية لتطوير القدرات النووية، وفي الوقت ذاته فرض مزيد من القيود على توسعها الإقليمي وجهودها للإحاطة بإسرائيل من مختلف الجبهات وبخاصة في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ومن يعلم، فقد كانت طهران تطمح إلى مدّ هذا التوسع والنفوذ في عواصم أخرى من المنطقة.
ربما ليس عفوياً تصاعد التوترات الإيرانية الإسرائيلية مع ما تشهده المنطقة من تغييرات على صعيد التقارب الإسرائيلي العربي، وتوسع آفاق التطبيع بينهما، وتعزيز التحالفات الإقليمية، بما يشمله من تعاون سياسي واقتصادي وأمني، وهو ما تراه إيران تهديداً أمنياً وجودياً لها، لا سيما وأن المشاريع متعارضة، وربما تسير على طرفي نقيض، ولا أحد منهما يعلم إلى أين ستصل هذه المواجهة بينهما، لكن الثابت، حتى الآن، أن إسرائيل ماضية في استهدافها للمشروع الإيراني بمختلف مجالاته في المنطقة، طالما أن الردود الانتقامية القادمة من هناك يمكن استيعابها، ولم تتجاوز الخطوط الحمراء.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.