تابعنا
في مشفى شهداء الأقصى بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة، تصارع السيدة سلوى عاشور (59 عاماً) آلاماً جسدية ونفسية لا تُطاق، إذ تجلس على كرسي غسل الكُلى، مُحاطة بأجهزة طبية تُصدر أصواتاً فيما تسيل دموعها على خدَّيها.

تروي السيدة بصوتٍ يرتعش من شدة الحزن والألم: "أنا مريضة كلى وسكر وضغط وقلب. عانيت كل هذه الأمراض كأنّ الموت يهدّدني. ظننتُ أنني سأفقد حياتي عندما قلّصوا عدد جلسات غسل الكلى من ساعتين ونصف إلى ساعة ونصف فقط. لا أدوية، لا رعاية، لا شيء سوى ألم يُرهق جسدي".

وتحكي لـTRT عربي عن نزوحها الذي بدأ في مستشفى الشفاء، حيث لجأت مع عائلتها هرباً من قصف جيش الاحتلال لمنزلهم. ظنّت أنّها ستجد الأمان بين جدران المستشفى، لكنها سرعان ما اضطُرّت إلى النزوح مرة أخرى إلى دير البلح وسط القطاع، لكن عندما عادت آلة الحرب الإسرائيلية لتقصف دير البلح، أُجبِرَت السيدة وعائلتها على النزوح مرة أخرى، هذه المرة إلى رفح.

لم تنتهِ رحلة العذاب عند هذا الحد، فبعد أن أصدر جيش الاحتلال الإسرائيلي أمراً بإجلاء سكان رفح في 7 من مايو/أيار الماضي لم يكن أمام سلوى وعائلتها سوى العودة إلى دير البلح.

وتعبّر عن شعورها باليأس والإرهاق بقولها: "عانينا كثيراً من النزوح وقلة العلاج الطبي وخروج المشافي عن العمل ونقص الأدوية التي أحتاج إليها"، مضيفةً: "هل يمكن أن يعيش أي أحد تحت وطأة هذه الأمراض بلا علاج أو رعاية كافية؟ هذه مش عيشة".

تجسّد سلوى معاناة آلاف العائلات في قطاع غزة ويلات الحروب والنزوح المتكرر، ويُعتبر ذوو الأمراض المزمنة والحرجة أكثر المتأذِّين من الأزمة الصحية التي يمرّ بها القطاع بسبب تدمير المشافي، وأغلبها خرج عن الخدمة.

تصارع السيدة سلوى عاشور (59 عاماً) آلاماً جسدية ونفسية لا تُطاق لإصابتها بالفشل الكلوي واضطرارها إلى المشي ساعات طويلة للوصول إلى المستشفى. (TRT Arabi)

"أشعر بالألم كل خطوة"

أما الحاج جمال يوسف، من مدينة رفح، فيعاني أيضاً مرض الفشل الكلوي منذ سنوات طويلة. "كانت رحلة غسل الكلى في مستشفى أبو يوسف النجار في رفح ميسرة، لكن سرق اجتياح الاحتلال الإسرائيلي راحتنا وحوّلها إلى معاناة لا تُطاق"، حسب تعبيره.

اضطُررنا إلى الانتقال إلى مستشفى شهداء الأقصى، لكنّ المواصلات صعبة ومكلفة، ونحن مرضى لا حول لنا ولا قوة.

ويقول لـTRT عربي: "أغسل كليتي مرتين في الأسبوع، كل مرة أربع ساعات. لكن مع الأحداث، قلّصوا مدة الغسل إلى ساعتين أو ساعة ونصف، وهذا لا يكفي".

يشكو الحاج معاناته قلة النوم بسبب التعب والسعال الذي يرافقه في الليل: "قلة المتابعة الطبية تضاعف معاناتي، ونقص الأدوية يهدّد حياتي. 12 عاماً من غسل الكلى، كانت صحتي جيدة، لكنّني الآن أمشي على العكاكيز، وكل خطوة فيها ألم"، وفق ما يرويه.

ويتساءل عن كيفية شرائه الأدوية، التي إن استطاع تأمين ثمنها لم يجدها: "أشتري ما أستطيع من أدوية، لكن ماذا أفعل إذا لم أجد ما أحتاج إليه؟".

الحاج جمال يوسف، من مدينة رفح، يعاني أيضاً مرض الفشل الكلوي منذ سنوات طويلة (TRT Arabi)

أما المريض وائل أحمد بركة (48 عاماً) فيصف لـTRT عربي ما آلت إليه الأوضاع الصحية في القطاع بقوله: "حياتي أصبحت جحيماً منذ قصف المشافي في غزة. لم يعُد يعمل سوى مشفى واحد، وتُغسَل فيه الكلى، وهو متكدس بالمرضى، لا يُمكننا الحصول على الخدمات التي نحتاج إليها".

وتَحدَّث وائل عن أزمة غسل الكلى في قطاع غزة، حيث انخفضت ساعات غسل الكلى من ثلاث مرات أسبوعياً بواقع أربع ساعات كل مرة، إلى مرتين فقط في الأسبوع بواقع ساعتين كل مرة.

"لقد أصبحت صحتنا تتدهور بسبب نقص ساعات غسيل الكلى، السموم تتراكم في أجسامنا، والألم لا يُطاق. لقد فقدنا كثيراً من المرضى بسبب هذا النقص المُقلِق"، حسب تعبيره.

ويضيف: "نناشد العالم أن يتدخل، إما يوفّر مستشفيات جديدة لنا، وإما يساعدنا على الحصول على علاج في الخارج. نحن نموت ببطء هنا".

يشعر وائل باليأس من تدهور حالته الصحية بعد أن أظهرت نتائج تحليل الدم التي أجراها قبل يومين ارتفاعاً مُقلِقاً في مستوى السموم في جسمه، وهو ما يجعله لا يستطيع النوم من الألم.

مشافٍ خارج الخدمة ورعاية طبية مفقودة

وقال نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة فرحان حقّ، إن الوصول إلى الخدمات الصحية الحيوية في غزة يتقلص، مع صدور أوامر إخلاء إضافية وتكثيف العمليات العسكرية.

وأضاف أنه وفقاً للشركاء العاملين في مجال الاستجابة الصحية، فإن المستشفى الميداني الإندونيسي في رفح أصبح خارج الخدمة منذ يوم 15 من مايو/أيار.

وأوضح أنه يوجد الآن ثمانية مستشفيات ميدانية عاملة، بما في ذلك مستشفى أنشأته اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتنسيق مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني للمساعدة في تلبية الحجم الهائل من الاحتياجات في رفح.

ونزح حوالي 600 ألف شخص، أي ما يعادل ربع سكان غزة، من رفح منذ السادس من أيار/مايو بينما تستمر العملية البرية الإسرائيلية، حسب وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين "أونروا".

وأكد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن العديد من العائلات تنزح الآن مرة أخرى، بعد أن نزحت بالفعل بشكل متكرر منذ تشرين الأول/أكتوبر.

بدورها حذرت نيبال فرسخ، المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، من خطر انهيار المنظومة الصحية في غزة بشكل كامل في حال استمر إغلاق المعابر.

وقالت فرسخ لـTRT عربي: "الوضع الصحي في غزة آخذ بالتدهور السريع، ونحن نتجه نحو انهيار شامل للنظام الصحي، إن استمر إغلاق المعابر"، مضيفةً أن "الاستهداف المتكرر للمستشفيات أدى إلى خروج غالبيتها عن الخدمة، فمن أصل 36 مستشفى، خرجت 32 عن الخدمة، ولكن للتوضيح، بعض هذه المستشفيات استعاد خدماته جزئيّاً".

وتابعت: "حالياً تعمل 8 مستشفيات فقط جزئيّاً، وكلها تعاني شحّاً في المستلزمات الطبية والأدوية، بالإضافة إلى الوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء".

وأشارت فرسخ إلى "مخاوف حقيقية من خروج المستشفيات المتبقية عن الخدمة بسببِ نفاد الوقود، وأعلن مستشفى غزة الأوروبي مؤخراً نفاد الوقود، ما أدى إلى توقف مولد الكهرباء عن العمل واضطرار المستشفى إلى العمل جزئيّاً فقط من خلالِ استخدام الخلايا الشمسية".

رفح على حافة الانهيار

أما رفح فأكدت فرسخ أنها "كانت تعاني شحّاً في الخدمات الطبية قبل بدء العمليةِ العسكرية، بسبب تكدس نحو نصف سكان قطاعِ غزة فيها، لكن الاستهداف المتواصل أخرج مستشفى أبو يوسف النجار عن العمل بسبب وجوده في المنطقة الحمراء التي أخطرها الاحتلال".

وأضافت: "المستشفى الكويتي أيضاً معرَّض للتوقف عن العمل في حال استمرار العملية العسكرية، وبالتالي لم يتبقَّ سوى المستشفى الإماراتي الذي يقدّم فقط خدمات التوليد، ما يترجم إلى عدم وجود مستشفيات عاملة في رفح لتقديم الرعاية الصحية".

"توجد مخاوف حقيقية من أن أعداداً كبيرة من الجرحى والمصابين لن يحصلوا على الرعاية الصحية الطارئة بسبب عدم وجود مستشفيات تستقبلهم، فضلاً عن إغلاق معبر رفح وعدم إجلاء الجرحى والمرضى من ذوي الحالات الخطيرة التي تستدعي حالتهم السفر إلى الخارج"، وفق فرسخ.

وأدّت سيطرة الجيش الإسرائيلي على معبر رفح ومحدودية الوصول إلى معبر كرم أبو سالم إلى تفاقم نقص الوقود، مما يعرض العمليات الإنسانية، بما في ذلك المستشفيات، لخطر الانهيار الوشيك، وفقاً لمنظمات الإغاثة الدولية.

ساهم في إعداد التقرير مراسلا TRT عربي في غزة ربى العجرمي وسامي برهوم.

TRT عربي
الأكثر تداولاً