وهل ستكون شبيهة إلى حد كبير بالسياسة التي اتبعها الرئيس أوباما سابقاً، خصوصاً أن بايدن بحد ذاته كان يشغل منصب نائب الرئيس فيها؟
كانت واحدة من أبرز السياسات الاستراتيجية التي تبنتها إدارة الرئيس أوباما هي"التوجه شرقاً" أو ما تعرف بـAsia pivot. وقد كان أول إعلان عن هذه السياسة مقال هيلاري كلينتون قبل عشر سنوات مع مجلة الفورين بوليسي، عندما كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية الأمريكية في الفترة الأولى للرئيس أوباما.
عبرت هيلاري في مقدمة مقالها بشكل واضح عن جوهر هذه السياسة حينما قالت بأن "الولايات المتحدة تقف عند نقطة محورية في الوقت الذي بدأت فيه الحرب في العراق تنتهي، وبدأت أمريكا بسحب قواتها من أفغانستان. فعلى مدار السنوات العشر الماضية خصصنا موارد هائلة لهذين البلدين. في السنوات العشر القادمة نحتاج إلى أن نكون أذكياء ومنظمين بشأن المكان الذي نستثمر فيه الوقت والطاقة، حتى نضع أنفسنا في أفضل وضع للحفاظ على قيادتنا وتأمين مصالحنا وتعزيز قيمنا. ستكون إحدى أهم مهام فن الحكم للولايات المتحدة خلال العقد القادم هي جذب استثمارات متزايدة بشكل كبير من الناحية الدبلوماسية والاقتصادية والاستراتيجية وغير ذلك، ووضعها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
وقد كان أبرز معالم هذا التوجه الجديد هو سعي إدارة الرئيس أوباما إلى التخفيف من أعباء بلاده في الشرق الأوسط. على الجانب العسكري، بدأ أوباما بسحب قواته من أفغانستان أولاً وذلك بداية من يوليو/تموز 2011، ومن ثم من العراق بداية من شهر ديسمبر/كانون الأول 2011. وعندما صدر القرار الأممي بضرورة حماية المدنيين الليبيين عبر استخدام أي وسيلة ضرورية ضد قوات الرئيس السابق معمر القذافي، اختارت إدارة أوباما سياسةالقيادة من الخلفLeading FromBehind، في عمليات الناتو التي أوقفت زحف قوات القذافي إلى مدينة بنغازي، حيث تولت كل من بريطانيا وفرنسا قمرة قيادة عمليات التحالف.
أما التفاوض مع إيران حول برنامجها النووي، والتوصل إلى اتفاق في نهاية المطاف عام 2015، فكان أهم خطوات عملية التخفيف الأمريكي من الشرق الأوسط. كان هناك قناعة لدى إدارة الرئيس أوباما أن مغادرة الشرق الأوسط لا يمكن أن تتم من غير تسوية ملف إيران النووي.
فحصول إيران على السلاح النووي سوف يفتح الباب واسعاً أمام سباق تسلح نووي في منطقة هي الأخطر عالمياً، وهو الأمر الذي سوف يجبر الولايات المتحدة إلى بذل الكثير من الوقت والمال والجهد من خلال إعادة تمركزها في المنطقة من جديد وفق التغيرات الطارئة.
ولذلك كانت حاجة إدارة الرئيس أوباما إلى الاتفاق أكثر من حاجة إيران، وهو الأمر الذي كان تعيه إيران بشكل جيد، الأمر الذي استثمرته لاحقاً من خلال نجاحها في إقناع الولايات المتحدة بضرورة فصل المسارات. فالمفاوضات كانت تقتصر على ملفها النووي، بعيداً عن برنامجها للصواريخ الباليستية بعيدة ومتوسطة المدى، وسياستها في المنطقة من خلال تدخلها في العراق وسوريا واليمن.
لم تمهل الأحداث إدارة أوباما الوقت الكافي لتقييم نجاحها في سياسة التخفيف هذه. فما هي إلا أشهر معدودة حتى اندلعت ثورات الربيع العربي، لذلك كانت واشنطن مضطرة إلى التعامل مع سقوط أبرز حلفائها في المنطقة ألا وهو حسني مبارك في مصر، في حين انقلبت الثورة في سوريا واليمن إلى حرب أهلية، الأمر الذي استدعى تدخلاً أكبر من روسيا وإيران، في الوقت الذي كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) على موعد مع حملة عسكرية طويلة المدى في ليبيا للقضاء على قوات القذافي. وأخيراً كان انبثاق تنظيم داعش الذي اضطر الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف دولي بقيادتها، وذلك لحرمان التنظيم من أماكن سيطرته على المدن الرئيسية في كل من العراق وسوريا كالموصل والرقة.
مع مجيء إدارة الرئيس ترمب كانت سياسة التخفيف من الشرق الأوسط قد ذهبت أدراج الرياح. كان الشرق الأوسط وتحديداً منطقة الخليج هي المحطة الخارجية الأولى للرئيس ترمب، وفي مؤتمر الرياض اتضحت معالم سياسة الرئيس ترمب تجاه المنطقة والتي تمثلت في أمرين رئيسيين هما:سياسة الدفع إلى الحد الأقصىمن قبل الدول العربية الغنية بالنفط،وسياسة تشديد العقوبات بالحد الأقصىعلى إيران وأذرعها. ترتب على هذه السياسة زيادة الدعم العسكري الأمريكي لحلفائها في المنطقة كالسعودية والإمارات بشكل غير مسبوق، وتشديد الخناق على إيران لدرجة تصنيفها للحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية. وكان من إفرازات هذه السياسة إعادة تموضع للتحالفات الإقليمية وما تمخض عنها من عمليات تطبيع كان الغرض منها تكوين حلف عربي-إسرائيلي-أمريكي ضد إيران وحلفائها.
بالنتيجة يقف الرئيس الحالي جو بايدن أمام مشهد لسياستين متقابلتين، تتمثل الأولى في سياسة أوباما من التخفيف المتعجل، والثانية في سياسة ترمب من الانخراط غير المدروس. وفي الوقت الذي بقيت فيه القيمة الاستراتيجية لمنطقة شرق آسيا تتعاظم لدى صانع القرار الأمريكي، فإن ربط مستقبل الوجود الأمريكي في تلك المنطقة من خلال إعادة النظر بوجود الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط لم يعد على الأغلب مطروحاً أمام صانع القرار في واشنطن.
فإذا كانت قيمة الشرق الأوسط وعلى مدار عشرات السنوات تنبع من حجم مخزونات الطاقة فيه، وما لها من أهمية في عمليات الاستدامة الاقتصادية في الغرب، فإن قيمته حالياً تنبع بالأساس من حرمان قوى منافسة أخرى للولايات المتحدة على المسرح الدولي من التمدد فيه والاستحواذ عليه. فالولايات المتحدة تدرك أن هيمنة الصين على هذه المنطقة سوف تقوض كل الجهود الأمريكية الرامية للتصدي لها واحتوائها في العقود المقبلة. ففي الوقت الذي لم تعد فيه المصانع الأمريكية تعتمد على نفط المنطقة، فإن المصانع الصينية تعتمد عليه بشكل مطلق، ومن هنا يمكن فهم العلاقة الوطيدة ما بين الصين وإيران على سبيل المثال. وعليه، تحولت أهمية النظر لأهمية المنطقة من بعدها الجيو-نفطي إلى الجيو-استراتيجي.
ومن هنا يبدو أن إدارة الرئيس بايدن ستذهب إلى اعتبار أن التوجه شرقاً إنما يبدأ من الشرق الأوسط، وليس من الحدود الجنوبية لشبه القارة الهندية. ولذلك ربما يعمل على انتهاج سياسة بعيدة نوعاً ما عن الواقعية العارية التي اتبعها كل من الرئيس أوباما والرئيس ترمب، وإن بشكل مختلف. فالرئيس أوباما وفي سبيل التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران تجاهل مخاوف حلفائه في المنطقة وعلى رأسهم دول الخليج وإسرائيل، أما ترمب وفي سبيل التوصل إلى اتفاقيات التطبيع، اصطف بشكل كبير وراء حلفائه متجاهلاً التزامات واشنطن باتفاق أممي كالاتفاق النووي الإيراني، ومتجاهلاً جميع التجاوزات المتعلقة بحقوق الإنسان من قبل حلفائه.
ويتبع الرئيس بايدن هنا مقاربة تعتمد إلى حد بعيد على المراوحة ما بين المصالح والقيم. ظهر ذلك مؤخراً، على سبيل المثال، من خلال توجيه المقاتلات الأمريكية لضربات عسكرية على مواقع لمليشيات تابعة لإيران في منطقة شمال شرق سوريا، في الوقت الذي عبر فيه البيت الأبيض عن استعداده لاستئناف المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي. كما أن إدارة الرئيس بايدن وفي الوقت الذي أكدت فيه حرص بلادها على حماية أمن السعودية، تصدر تقريراً استخباراتياً يدين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بجريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
إعادة تعريف الحدود الذهنية لمقاربة التوجه شرقاً لتبدأ من الشرق الأوسط بدلاً من شبه القارة الهندية، واتباع نهج يزاوج ما بين المصالح والقيم، ربما تشكلان ركيزتين أساسيتين لسياسة إدارة الرئيس بايدن العالمية في المرحلة المقبلة وهو ما يعني احتفاظ الشرق الأوسط لهميته الاستراتيجية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية في المرحلة المقبلة أيضا.