بنهاية العام ومطلع 2021 استبشر النّاس بتوارد أخبار اللقاحات كخَلاص من جائحة عطّلت على الناس حياتهم في أحسن الحالات، غير أن ولادة اللقاح وسيرورة العمل به رافقها كمٌّ واسع من الجدالات العلمية والخلافات السياسية.
فسباق الحصول على لقاح لجائحةٍ ذات هوية معولمة، لم تسثنِ قُطراً دون آخر، جعل علماء الفيروسات يصِلون إلى ما يشبه المعجزة العلمية بُغية الخروج من الأزمة، أي اختراع في أقل من سنة، فبالعودة إلى تاريخ ظهور اللقاحات نجد أن متوسط أعمار التجارب العلمية للقاح كانت تأخذ من 10 إلى 15 سنة، في هذا السياق يقول البروفيسور علي فطوم خبير اللقاحات والأستاذ في جامعة ميشيغان: "أنْ نحصل على لقاح في فترة قصيرة، ومن الصفر إلى نجاعة تناهز 90 % هي مسألة تشبه المعجزة"، على النقيض من هذا الاحتفاء باختراع لقاح في مدة زمنية قصيرة خلق هذا الأمر شعوراً بالشكوك وعدم الرضا تجاه اللقاح كونه لم يأخذ وقته الكافي لبرهنة نجاعته، فضلاً عن تقارير المؤامرة التي كانت تترصده.
في بداية ظهوره، كان سؤال الفاعلية هو المقياس الأساسي المطروح للسؤال في مدى نجاح اللقاح، لكن مع مرور الزمن وتواتر أعراض جانبية للقاحات أصبح سؤال درجة أمان اللقاح يُطرح بشدة، بل إنّ الأمر وصل ببعض الدول إلى إيقاف العمل بلقاحات تراءى لها أنها تشكل خطراً على صحة مواطنيها. من ذلك، أعلنت مجموعة من الدول من بينها تايلاند، والدنمارك وإيطاليا، تعليق العمل بلقاح "أسترازينيكا-أكسفورد" (AstraZeneca-Oxford)، كما أعلنت وكالة الأدوية الأوروبية وجود "صلة محتملة" بين لقاح جونسون آند جونسون وحالات تجلّط دموي نادرة.
من جهة أخرى، يواجه اللقاح مشكلة تتمثل في مدى قدرة مواكبته الطفرات الجينية للفيروس، إذ كلما انتشر كان عرضة لتحوّلات جينية، طفرات أدّت في بعض الحالات إلى تغيير ارتباط الفيروس بالخلايا، مما أثر على قدراته الدفاعية، حيث أشارت الدراسات إلى أنّ لقاح كورونا يفقد من فعاليته في مواجهة سلالة جنوب إفريقيا.
وعلى الرغم من المشاكل والتشكيكات العلمية التي تواجهها اللقاحات إلا أنها تحظى بحماية تجارية مطلقة، أثّرت سلباً على توفير جرعات منها لكل الدول على قدم المساواة، فعبر تاريخ البشرية المزدحم بالأمراض والأوبئة كانت لهذه اللقاحات صبغة إنسانية، تهدف إلى خلاص الناس من الهلاك.
أما في عالمنا اليوم فقد باتت اللقاحات وصناعة الدواء في العموم، ترزح تحت طائلة شركات تجارية، تهدف إلى الربح المادي بالدرجة الأولى، عبر احتكار براءة الاختراع وحقوق الملكية بهدف التحكم في سوق اللقاح، وهو ما يظهر جلياً في التعامل التجاري الاحتكاري للقاح كورونا، خاصة إذا ما علمنا أنّ طاقات إنتاج الشركات المصرّح لها غير قادرة على تغطية احتياجات العالم من اللقاحات في الوقت الراهن مما سينتج تدافعاً على الطلب من لدن الدول القوية إلى الأقوى.
في تصريح لها قالت إلين تي هوين، المشرفة على إدارة موقع قانون وسياسات الأدوية والناشطة في جمعية أطباء بلا حدود: "إنّ حكومات الدول الكبرى تقف وراء هذه المعضلة لأنها أطلقت أيدي شركات اللقاحات التي كانت في بدايات الجائحة قد أبدت اهتماماً ضئيلاً لإنتاج اللقاح إلا أنّ التمويلات السخيّة التي ضُخّت إليها من الهيئات الرسمية وغير الرسمية، جعلتها تدخل في سباق محموم نحو الحصول على اللقاح، أي أنّ الدافع الربحي كان المهيمن عليها"، كما تضيف أنّه "كان على الممولين في البداية تضمين بند يكسر احتكار الشركات للقاح، حتى تعمّ الفائدة البشرية".
ولعل ما يبرهن هذه النوايا، فشل دعوات ومساعي حكومات ومنظمات كانت ترمي نحو تعويم اللقاح وتنسيب حقوق الملكية الفكرية التي يتمتع بها، من ذلك على سبيل المثال، قدمت الهند وجنوب إفريقيا اقتراحاً تدعمه ثمانون دولة، في أكتوبر/آب 2020، يطالب بالسّماح بإنتاج نسخ محلية للقاح عبر إعفاء الدول المنتجة مؤقتاً من قيود الملكية الفكرية والتي ينظمها اتفاق تريبس، حتى تتمكن من تأمين حصصها من اللقاح، بأسعار متماشية مع أوضاعها الاقتصادية المحدودة.
وفي ردّه على هذه الدعوات أصدرالاتحاد الدولي للمصنّعين والجمعيات الصيدلانية بياناً رافضاً لفكرة فك القيود عن براءة الاختراع، كما أعلنت أنّ احتكار حقوق الملكية لا يحول دون مقاومة الوباء كما يثير خصومهم، إنّما كان محفزاً نحو التسريع في اكتشاف اللقاح، وسيكون محفزاً مستقبلياً نحو استمرارية التطوير، وأن كل الدعوات المخالفة، سوف تؤتي نتائج عكسية.
ومما زاد موقف شركات اللقاحات تصلباً، دعم حكومات الدول الكبرى لتوجهاتها نحو احتكار اللقاح، كالولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، التي تؤوي مقارّ الشركات.
علاوة على ذلك، شكّل سلوك الدول الكبرى عاملاً مضافاً لأزمة اللقاح، حيث عرفت مساعي حكومات هذه الدول نحو توفير اللقاحات لمواطنيها تنافسيةً محمومةً فيما بينها ووصلت إلى حدود الخلافات العميقة بسبب مساعي احتكار اللقاح. أزمة ترجمتها تصريحات قادة ومسؤولين عن تلك الدول، من ذلك حذّر رئيس الوزراء البريطاني مِن حرب لقاحات وشيكة، كما أشارت الصحف البريطانية إلى أنّ هذا الخلاف بين الجانب الأوروبي وبريطانيا ستكون له انعكاسات كارثية على الطرفين، وسيكون له أيضاً دور في تغذية حركات اليمين المتطرف.
اتجهت الأطراف المتنازعة على اللقاح لتنظيم قمة افتراضية، تباحثت من خلالها قرار الاتحاد الأوروبي الاحتفاظ باللقاحات التي ينتجها، وإيقاف التصدير نحو المملكة المتحدة، بعد اتهام الشركة البريطانية السويدية "أسترازينيكا" بإخلالها بعقد تزويد دول الاتحاد الأوروبي باللقاح، وفرض حواجز عليها.
كما تعكس الأرقام والمؤشرات حجم التنافسية على اللقاح إذ تشير الإحصائيات إلى أن 15 % من سكان الأرض يحتجزون 60% من اللقاحات وهو ما أدى إلى قطع إمدادات اللقاح أمام بقية الدول، بل إنّ دولة صغيرة مثل سويسرا لوحدها اشترت ما يكفي لتطعيم شعبها مرتين.
في هذا المنحى التنفاسي، لا تجد المشاريع الإنسانية الرامية إلى تعميم اللقاح الدعم اللازم، من ذلك رفضت أغلب الدول الغنية الانضمام إلى مشروع كوفكاس، وهو مبادرة إنسانية دولية تقودها منظمة الصحة العالمية تهدف إلى إيصال اللقاح لكلّ الناس خاصة الفئات الفقيرة. لقد انعكست أغراض الدول الكبرى سلباً على نجاعة المبادرة خاصة أنها تعتمد على التمويل لشراء، وتخزين اللقاح.
يقول علماء الفيروسات إنّ "علمية توزيع اللقاح ووصوله إلى الناس عملية أشد تعقيداً من اختراع اللقاح"، ومما لا شك فيه أنّ هذا الصعوبة تزداد تعقيداً في الدول الفقيرة التي كانت تعاني قبل الجائحة ضعفاً بل غياباً للبنى التحتية الصحية، كما تسببت فترة الجائحة التي عُرفت بإغلاق المناشط والمؤسسات الاقتصادية، بتراجع المؤشرات الاقتصادية وارتفاع في نسب التضخم والبطالة، فكيف لدول تعاني مشاكل اقتصادية حادة، أن تؤمّن لقاحات لشعوبها؟ خاصة أن شدة الطلب عليه من الدول الغنية جعلت أسعاره باهظة التكلفة. إنّ هذه الوضعية لن تكرّس فقط الهوّة بين الدول بل ستعمّق من مستوى التبعية السياسية للدول الفقيرة تجاه الدول الغنية.
على الرغم من نجاح فيروس كورونا في برهنة نظرية السفينة الواحدة، بمعنى أنّ خلاص الواحد يكمُن في خلاص الجميع والعكس صحيح، إلا أنّ سلوك الدول الكبرى المتسم بالاحتكارية يعكس قصر الفهم لإدراك هذه الحقيقة، في هذا السياق تقول منظمة الصحة العالمية: "في ظل الجائحة سريعة الانتشار، لن ينعم أحد بالأمان ما لم ينعم به الجميع".