فالإرهاب الأبيض ومتطرفو اليمين استطاعوا، عبر تشجيع مباشر من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، اقتحام ركن الديمقراطية العالمي الكونغرس الأمريكي، وإحداث نوع من الخلخلة في واحدة من أعرق المبادئ الراسخة في الولايات المتحدة.
كانت واحدة من الأدوات الفعالة التي لجأ إليها التيار اليميني المتطرف هي الاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي، سواء للتنظيم أو لنشر الدعاية والتحريض. خدمهم في ذلك الرئيس ترمب عبر ماكينته التضليلية التي كانت لا تهدأ من خلال منصات التواصل الاجتماعي وخصوصاً منصة تويتر. ولذلك لم يكن مستغرباً أن أولى الإجراءات التي اتخذت ضد هذا التيار جاءت من ذات المنصات الرئيسية، والتي عملت سريعاً على تقييد الوصول وإلغاء الاشتراك لقيادات هذا التيار وأبرز شخصياته ورموزه، فضلاً عن أهم قنواته ومجموعاته العاملة في هذا المضمار.
من أبرز الأمثلة على تقييد الوصول أو ما يمكن أن يُطلق عليه إلغاء الاشتراك De-platforming، هو الحجب الدائم لحساب الرئيس السابق ترمب من منصة تويتر، هذا بالإضافة إلى إلغائها أكثر من 700 حساب تعود إلى جماعة QAnon، وهي جماعة متطرفة من اليمين الأبيض تزعم أن الرئيس ترمب يقود حملة ضد عصابة عالمية من النخبة الذين يعبدون الشيطان، ويمارسون البودوفيليا.
على إثر هذه الحملات المضادة للدعاية اليمينية المتطرفة برزت تساؤلات حول مدى كفاءة هذه الإجراءات في التصدي لحملات التضليل التي تقودها هذه الجماعات المتطرفة، وحول البدائل التي باتت هذه الجماعات تلجأ إليها، خصوصاً مع توفر خدمة التكنولوجيات المشفرة على غرار Telegram، وSignal، اللذين حظيا بانتشار واسع مع بداية هذا العام لاعتبارات عدة أهمها سياسة الخصوصية الجديدة التي اتبعتها شركة فيسبوك عبر تطبيقها الشهير واتساب.
كانت هناك حملة تشكيك واسعة في جدوى سياسة تضييق الوصول والإلغاء والحجب، على اعتبار أن هذه الجماعات المتطرفة من السهل أن تجد لها بديلاً آخر غير المنصات الرئيسية لكي تواصل من خلاله بث سمومها الدعائية الهدامة.
ولهذا التشكيك وجاهة في الحقيقة. فبعد التضييق الذي واجهته على المنصات الرئيسية كفيسبوك وتويتر ويوتيوب، تحولت العديد من الجماعات المتطرفة إلى تطبيقات من قبيل سيغنال وبالأخص تيليغرام الذي يوفر وفق خصائصه ملجأ عامراً لهذه الجماعات. فهو يوفر خدمة التواصل المشفر، كما أن مجموعاته الخاصة يمكن أن يصل عدد أعضائها إلى 200 ألف (مجموعات واتساب تستوعب 250 فقط بينما سيغنال 1000)، هذا فضلاً عن القنوات العامة التي لا يمكن حصر عدد متابعيها برقم محدد، وهو ما يسمح بشكل كبير بتسهيل عملية نشر الدعاية المزيفة.
وجاهة هذا الطرح لا تلغي أهمية الإجراءات الوقائية المتمثلة في الحجب، وتضييق الوصول، وإلغاء الاشتراكات. فهذه الإجراءات الوقائية تعمل بداية على حرمان هذه الجماعات المتطرفة من ثلاثيتهم الأثيرة وهي الدعاية، والتنظيم، والتجنيد. فلأجل تحقيق هذه الثلاثية الأثيرة لديهم لا بد لهم من الوجود على المنصات الرئيسية الكبرى لتحقيق أكبر قدر من الانتشار. حرمانهم من هذه الميزة، وبالتالي لجوءهم إلى منصات فرعية، سوف يقلل من قدرتهم على الانتشار، والاتساع.
الفكرة في التصدي لهذه الجماعات يجب أن تكون براغماتية في الأساس. فالقضاء عليهم بشكل كامل يبدو أنه فكرة طوباوية، والاستمرار في التفكير فيها سوف يشتت الجهود. على العكس يجب أن تكون الاستراتيجية هي الاحتواء، والدفع بهم أكثر إلى الهوامش، نحو مجتمعاتهم المحلية الضيقة.
لا شك أن هذا سوف يفرز إشكالية أخرى تتعلق بتعميق ظاهرة التشدد والتطرف ضمن هذه المجتمعات المحلية التي سوف تنقلب لتكون أشبه بالغيتوهات. هذا صحيح إلى حد كبير، ولذلك تبرز هنا الحاجة الماسة إلى تفعيل برامج تأهيلية موازية تعمل على فكفكة أفكارهم بالحجة والمنطق، وهو ما يمهد الطريق إلى ضعفها واضمحلالها لاحقاً.
إن فكرة انزياح هذه الجماعات نحو المنصات الهامشية أو الفرعية توفر أيضاً سهولة التعقب والمتابعة. وذلك على خلاف الفكرة أن تشتت هذه الجماعات على أكثر من منصة فرعية سوف يعيق عمليات التعقب. إن فكرة التعقب تتناسب عكسياً مع حجم الشبكة، فكلما كانت الشبكة أصغر كان التعقب أكثر فاعلية. وبالرغم من النقاشات الحامية التي شاعت مؤخراً حول مدى أخلاقيات المراقبة والتعقب، فإنه يوجد نوع من الإجماع لدى المشرعين، والمسؤولين الحكوميين، والمديرين التنفيذيين للشركات التكنولوجية وغيرهم على ضرورة تفعيل آلية الرقابة والتعقب ضد هذه الأفكار المتطرفة، التي تسهم بشكل كبير في إحداث تشققات كبيرة في النسيج الاجتماعي للدول.
وتعبيراً عن هذا الإجماع كانت الإجراءات التي اتخذتها شركة تيليغرام ضد هذه المجموعات. فبالرغم من التحفظ الكبير الذي تبديه الشركة ضد سياسات التعقب وتضييق الوصول، وتخوفها من الاستغلال المفرط لهذه السياسات من قبل الحكومات للتضييق على حرية التعبير، فإنها قامت، على سبيل المثال، بحجب عشرات القنوات العامة للتحريض على العنف لانتهاكها شروط الخدمة، شمل ذلك قناة عرضت، في الأيام التي سبقت تنصيب الرئيس بايدن، كيفية صنع وإخفاء بنادق وقنابل محلية الصنع.
مع ذلك هناك الكثير من الجهود التي يجب أن تقوم بها هذه المنصات في هذا المضمار، فما زالت على منصة تيليغرام، على سبيل المثال، قناة عامة تتبع جماعة Proud Boy اليمينية المتطرفة تضم أكثر من 400 ألف متابع.
ولذلك من الضروري الإشارة هنا إلى الجهود التنسيقية التي قامت بها اليوروبول، وهي وكالة التحقيق العابرة للحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، وتعرف رسمياً باسم وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون، وبين تيليغرام لمحاربة الدعاية التابعة لتنظيم داعش الإرهابي. وهو نموذج مهم يمكن البناء عليه لجهود تنسيقية بين وكالات ما فوق حكومية، أو مؤسسات مجتمع مدني مع هذه المنصات للتغلب على هذه الظاهرة. فهذه المنصات الرقمية ما زالت تعاني من حساسية التعاطي مع الحكومات والمشرعين على خلفية التخوفات من التضييق على حريات التعبير، أو الخوف من قوانين الحد من الاحتكار. فمن شأن التعاون بين هذه المنصات ووكالات غير حكومية وNGOs أن يقلل من هذه التخوفات، ويجعل من عمليات استهداف خطاب الكراهية والجماعات التي تقف خلفه أكثر فاعلية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.