في أثناء انتشار فيروس كوفيد-19، وفي غفلة انشغال العالم عن بكرة أبيه في مكافحة الجائحة ومحاولة السيطرة عليها، كان وباء آخر ينتشر، ولكن هذه المرة بتشجيع ومباركة منا. لقد أشار العديد من الإحصائيات إلى أن استخدام الإنترنت خلال جائحة كورونا قد ارتفع بشدة.
يبدو أن هذا أمر منطقي ولا يثير القلق، ففي ظلّ الإغلاقات وحالة الشلل التي أصابت القطاعات الفيزيائية من حياتنا البشرية كالعمل والدراسة وغيرها، كان الإنترنت والوسائل الافتراضية هي البديل الأسلم والأكثر نجاعة. النتيجة التي تَشكّلَت في الخفاء جراء الهجرة نحو الافتراضي هي: إدمان الشاشة، والاستخدام الثقيل الرقمي، والتشبع بالمعلومات.
لم يكُن إدمان الإنترنت بالظاهرة الجديدة، فمنذ تسعينيات القرن العشرين تحذّر أصوات من مغبَّة هذا النوع من الإدمان. وإذا كانت بدايات الإنترنت قد شهدت جدلاً كبيراً بين المتخصصين والأكاديميين حول إدراج إدمان الإنترنت ضمن فصيلة "الإدمان المرضي"، بالمعنى المتعارَف عليه طبّيّاً كإدمان العقاقير على سبيل المثال، من عدمه، فإن هذا الجدل قد حُسم لاحقاً لصالح الفريق الذي ينادي بضرورة الإدراج.
وبذلك تم إدخال إدمان الإنترنت كواحد من مسبّبات الإدمان التي قد تؤدّي إلى أعراض يُضطرّ صاحبها -إذا لزم الأمر- إلى زيارة الطبيب. وفي النماذج الأولى التي أُسندَت إلى الإنترنت، كان التقابل ما بينه وبين إدمان لعبة القمار، فقد لاحظت كيمبرلي يونغ، وهي عالمة نفس ومؤسّسة مركز إدمان الإنترنت ورائدة في هذا المجال، وجود تشابه بين أنوع الأشخاص الذين يراهنون على منزلهم في لعبة البوكر، وأنواع الأشخاص الذين يراهنون بحياتهم على الشاشة الرقمية. وجه الشبهة هنا أن "كليهما لم يتضمن أي مخدّر كيميائي، ولكن كليهما أظهر أنماطاً إدمانية".
الدراسات التي تتناول إدمان الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي على وجه التحديد كواحد من أبرز التطبيقات المستخدَمة وما يترتب على ذلك من آثار جانبية ضارة على الصحة النفسية والعقلية، ما زالت قاصرة عن إعطاء نتائج حاسمة حول مدى تأثير هذا الإدمان للشرائح المتنوعة من الأشخاص. فالنتائج ما زالت متضاربة ما بين الدراسات التي ترى أن إدمان الإنترنت يؤدّي إلى العديد من الآثار الجانبية السلبية من قبيل زيادة الاكتئاب، والتوتر، وقلة التركيز، والتوحد، وأخرى ترى أن الإنترنت يساعد الأشخاص على تعزيز شبكاتهم الاجتماعية، وإنجاز مهامّهم بشكل أفضل، ومنحهم شعوراً بالبهجة.
ما يؤشّر على هذه النتائج الملتبسة ما توصلت إليها دراسة أُجريَت في هولندا 2019، طلب فيها الباحثون من 353 مراهقاً الإبلاغ ستّ مرات في اليوم عن عدد المرات التي تَصفَّحوا فيها تطبيقَي Instagram وSnapchat في الساعات الماضية، وملاحظة ما شعروا به في ذلك الوقت وفي لحظة الإبلاغ.
والنتيجة كانت أن 20 بالمئة من المراهقين الذين استخدموا هواتفهم للوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي قالوا إن مزاجهم تدحرج إلى الأسوأ، فيما قال 17 بالمئة إن مزاجهم تَحسَّن. دراسة أخرى كشفت أن 40 بالمئة من المراهقات اللاتي يستخدمن تطبيق Instagram شعرن بالسوء نتيجة الانطباع السلبي الذي أخذنه عن أجسادهن بسبب ما يرونه على التطبيق. وفي الوقت الذي تبدو فيه هذه النتائج مثيرة للقلق، فإنه لا يمكن تعميمها. فتجربة الإنترنت واسعة جدّاً، وهي ظاهرة ما زالت جديدة، وسريعة التطور والتقلب، ومن هنا تأتي صعوبة التوصل إلى نتائج حاسمة حول تأثيراتها النفسية والعقلية الضارَّة على البشر.
لذلك أعتقد أن الطريقة التي بدأت مؤخَّراً تطفو على السطح في التعاطي مع هذه الظاهرة هي الأجدى، وأقصد بهذه الطريقة تقسيم الفئات الاجتماعية مع إعطاء تركيز أكثر على فئة الأطفال والمراهقين، وإعادة صياغة سؤال البحث من "هل وسائل التواصل الاجتماعي هي المسؤولة عن زيادة الأزمة العاطفية للمراهقين؟ إلى "ما المحتوى الذي يجب أن يستهلكه المستخدم على الشاشة، والأنشطة الأخرى البديلة التي قد تحل محلها؟".
إن التركيز على فئة المراهقين والأطفال في معالجة ما يُسمَّى بإدمان الشاشة يبدو منطقياً. فهذه الفئة هي الأكثر هشاشة والأكثر عرضة للشاشة. يرى الخبراء أن الاستخدام الكثيف للشاشة يتفاعل مع عامل بيولوجي رئيس هو سنّ البلوغ.
في هذه السن لا يكون الدماغ قد نضح بما يكفي لتكوين آليات التأقلم والدفاع، ولذلك يكون أكثر عرضة للأذى والتأثر بالعوامل الخارجية. ويضيفون أن قدرة الشباب على التكيف قد تآكلت بشكل أكبر بسبب الانخفاض في النوم وممارسة الرياضة والتواصل الشخصي التي تراجعت جميعاً مع ارتفاع ملحوظ في الوقت الذي يُمضيه الشباب على الشاشة واستهلاك المعلومات. وعلى الرغم من أن نسبة التواصل ارتفعت بسبب تطبيقات المحادثة المجانية، فإن هذا الجيل من الشباب هو الأكثر شعوراً بالوحدة من أي جيل آخر، وهذا ما ينعكس على شعورهم بالرضا الشخصي والسعادة.
في الولايات المتحدة على سبيل المثال، ارتفعت من عام 2007 إلى عام 2016 زيارات غرف الطوارئ للأشخاص الذين تتراوح سنّهم بين 5 و17 عاماً بنسبة 117 بالمئة لاضطرابات القلق، و44 بالمئة لاضطرابات المزاج، و40 بالمئة لاضطرابات الانتباه.
ووجدت الدراسة نفسها، التي نُشرت في مجلة Pediatrics عام 2020، أن زيارات إيذاء النفس المتعمَّد ارتفعت بنسبة 329%. لكن زيارات المشكلات المتعلقة بالكحولّ انخفضت بنسبة 39 في المئة، وهو يعكس التغيير في نوع مخاطر الصحة العامة التي يتعرض لها المراهقون. يجب ملاحظة أنه في نفس الفترة فقد انتشر استخدام الأجهزة الإلكترونية الشخصية بشكل ملحوظ. ففي عام 2005 كان 45 في المئة من المراهقين يمتلكون هواتف نقالة، وبحلول عام 2010 وصلت النسبة إلى 75 بالمئة، وبحلول عام 2018، وصلت إلى 95 بالمئة، إذ أفاد نصفهم بأنهم متصلون بالإنترنت بشكل مستمر تقريباً.
وقد أشار المختصون إلى نقطة في غاية الحساسية، وهو ما أسماه بعضهم بـ"الضربة المزدوجة" تجمع ما بين البلوغ المبكّر، الذي بدأ يشيع بين المراهقين للعديد من الأسباب، أهمّها طرق التغذية الحديثة إذ انخفض متوسط البلوغ لدى الفتيات من 14 عاماً إلى 12 عاماً من 1990، وبين التعرض الكثيف للمعلومات عبر الشاشة الرقمية.
وقد اعتبر المختصون أن التعرض لهذه الضربة المزدوجة قد يؤدي إلى زيادة القلق والاكتئاب، وذلك بفعل ضعف القدرة على التأقلم أو الشعور بفقدان السيطرة. ففي فترة البلوغ ينغمر الدماغ بالهرمونات والموادّ الكيميائية العصبية الأخرى التي تجعل المراهق الشابّ أكثر حساسية للتغيرات في الإشارات الاجتماعية. فعالَم الإنترنت يسمح للمراهق أن يلج بيئات اجتماعية قد تكون غريبة عن محيطه، وهو ما يُفقِده السيطرة، خصوصاً إذا تَعرَّض في هذه المجتمعات للإساءة والتحرش، وهو الأمر الذي قد يدفعه إلى التفكير في إيذاء النفس أو حتى الانتحار.
أخيراً، ونظراً إلى عدم واقعية حرمان المراهقين والشباب من استخدام الشاشة التي أصبحت عنوان العصر الذي نعيش فيه، فإن طرقاً أخرى باتت تبرز على المناقشات الأكاديمية والصحية حول تجنيب هذه الشريحة الآثار السلبية للإنترنت، منها النظر إلى نوع المحتوى الذي تستهلكه هذه الشريحة. فالشاشة لا غنى عنها في عملية التعلم والتواصل، وهما عنصران مهمَّان في بناء الشخصية الاجتماعية لأي مراهق، فضلاً عن تنويع الأنشطة مع التركيز على النوم، وزيادة الوقت مع العائلة والأصدقاء، وتمضية وقت أكبر في ممارسة الرياضة والأنشطة الخارجية.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.