كثيراً ما تضع الذاكرة التاريخية، البلدان الأوروبية التي تتزعم اليوم رفع لواء الحضارة والتقدم والانتصار لحقوق الإنسان، في مأزق وموقف حرج. فبالرغم من ترسانة القوانين والمواثيق الدولية التي انخرطت فيها اليوم، إلا أن ذلك لم يسعفها في محو صفحات كثيرة من حقبة تاريخية مظلمة.
فلا يتوقع كثيرون اليوم، أن سويسرا على سبيل المثال، التي لطالما اشتهر اسمها باعتبارها الدولة الجميلة في أوروبا وعاصمة المال والأمان، كانت في الماضي مقبرة للطفولة. إذ انتشرت فيها إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، أي إلى وقت قريب، أسوأ أشكال العبودية والاستغلال الوحشي للأطفال.
وقد أزيح مؤخراً الغبار، عن كثير من هذه الانتهاكات، التي ستظل تلاحق تاريخ سويسرا، وأوروبا بشكل عام. والتي فجرت في الوقت ذاته العديد من التساؤلات، عما إذا كانت أوروبا قد قطعت فعلاً العلاقة مع هذا التاريخ، بخاصة في ظل ما يروج مؤخراً من تقارير عن انتهاكات تطال الأطفال.
عمالة الأطفال.. الجانب المظلم لسويسرا
رغم تأخرها عن الركب في البداية، استطاعت سويسرا في وقت قصير، تصدر قائمة الدول الأوروبية التي شهدت ثورة صناعية، وحافظت على هذا الموقع طيلة عقود.
ولم يكن من المتوقع، أن هذا التقدم والتطور الذي أحرزته، كانت معتمدة فيه بشكل كبير على عمالة الأطفال، التي أصبحت في القرن التاسع عشر، ظاهرة اعتيادية في سويسرا وتحولت إل شكل من أشكال الاستغلال.
حيث أصبحت المصانع السويسرية في ذلك الوقت، توظف الآلاف من الأطفال، في مختلف الاختصاصات، غير مراعية في ذلك فارق السن أو البنية الجسدية، مقارنة مع البالغين.
وكانت مصانع النسيج، التي يوجد أغلبها في شرق سويسرا وفي كانتون زيورخ، من أكثر هذه المنشآت والقطاعات توظيفاً للأطفال، وكان آنذاك حوالي ثلث العاملين والعاملات فيها من الأطفال دون السادسة عشرة.
وحرم بذلك الكثير من الأطفال من الالتحاق بمقاعد الدراسة، فيما اضطر بعضهم إلى العمل ساعات طويلة وإلى وقت متأخر من الليل، إلى جانب المدرسة، ولم يكن بإمكانهم اللعب أو الاستمتاع بأوقاتهم أو الظفر بالراحة.
وقد أشارت بعض المصادر التاريخية، في حديثها عن حياة الأطفال العاملين في سويسرا، إلى أن :"إرهاقهم الزائد جعلهم ناعسين ومنهكين، وانعدمت لديهم القدرة العقلية والجسمانية، وكانوا غير منتبهين ومشتتين، بدون أن يُظهروا أي نوع من الاهتمام، مشيحين بنظرهم بسطحية ولامبالاة لكل شيء".
ويرى محللون ومختصون، أن عمالة الأطفال، قد انتشرت في سويسرا حتى بداية القرن العشرين، بشكل لا إنساني، باعتبرهم قوة عاملة رخيصة. حيث كتب فيكتور بومرت، وهو واحد من أهم رجال الاقتصاد آنذاك، بأن أفضل طريقة كي تواجه مصانع الغزل السويسرية مثلاً، منافسيها من الدول الخارجية، هو الاعتماد الحتمي على "عمل الأطفال والسيدات ذوي الرواتب المتدنية".
وإن كان استغلال الأطفال، في ذلك الوقت، يجري بالرغم من وجود عائلاتهم وأسرهم معهم، فإن استغلال الأيتام، سيكون بالتالي من الأمر البدهي، باعتبارهم فئة ضعيفة وغير محمية.
وقد تحدثت العديد من التقارير، عن أنه في مجال الزراعة، شغلت الكثير من عائلات الفلاحين التي احتفظت بأطفال أيتام هؤلاء الأطفال لديها في مهن شاقة ومدة ساعات طويلة ودون استراحة أو عطلة، مقابل إيوائهم وإطعامهم فقط.
كما قامت المصانع أيضاً بتوظيف الأطفال الأيتام سواء الذين كانوا يسكنون في الدور أو في الملاجئ والمشردين منهم، في مهن قاسية، وكان من بينها توظيفهم في تنظيف المداخن الحجرية الممتلئة بالرماد والسواد. وكانوا يتسلقون بأحجامهم الصغيرة في هذه المداخن ويقومون بتنظيفها، تحت مراقبة وضغط أرباب العمل، وخوفاً من العقاب، ويتحصلون آخر اليوم على أجور زهيدة، فيما يقدم لبعضهم فقط طعام لا يكاد يسد رمقهم.
مزادات لبيع الأطفال
بينما أصبح الأطفال ركيزة التشغيل في مختلف القطاعات في سويسرا، أصبحت المزادات لبيع الأطفال ولا سيما الأيتام منهم منتشرة بشكل فظيع في جميع أرجاء سويسرا وبخاصة في المناطق الصناعية والزراعية.
فإن كان المشردون والأيتام القادمون من دور الرعاية، يعرضون بشكل يومي للبيع بأجور زهيدة لأصحاب المصانع ورؤساء الشركات والمؤسسات وأصحاب المزارع، فإن بعض العائلات باعت أيضاً أطفالها، وذلك للحصول مقابلهم على أموال وإن كانت بسيطة، قد تتمكن بها من حل مشكلات الحياة اليومية.
ولم يكن عرضهم وبيعهم في مزادات علنية، الحلقة الأسوأ في التجربة التي عايشها الكثير منهم، إذ إنهم انتقلوا من ذلك إلى معاناة الاستعباد والإساءة والعنف على يد "مالكيهم" الجدد.
وكشفت تقارير حقوقية أن هناك المئات من الأطفال قد تعرضوا في ذلك الوقت للاستعباد الجنسي، ومنهم من تعرض إلى العنف والتعذيب المستمر، ومنهم من اضطر أيضاً إلى العيش في ظروف لا تخضع لأبسط مقومات الإنسانية.
وإن كانت سويسرا قد انخرطت لاحقاً في التوقيع والالتزام الدولي بحقوق الطفل، وتمكنت من القطع مع هذا التاريخ، داخل أراضيها. فإن تقارير استقصائية وحقوقية لا تزال تكشف أنها خرقت في المقابل هذه المواثيق خارج البلاد، مثل حادثة شركة الإسمنت لافارج هولسيم، التي اتُّهمت بشراء مواد خام من شرق إفريقيا جرى استخراجها بواسطة أطفال.