أقر مجلس الشيوخ الأمريكي الأربعاء الفائت قانون CHIPS، وهو عبارة عن حزمة بقيمة 52 مليار دولار تهدف إلى تعزيز تصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة. من المرجح أن يوافق مجلس النواب على التمويل بحلول نهاية الأسبوع، ومن المتوقع أن يوقع الرئيس جو بايدن على التشريع بعد ذلك بوقت قصير.
وفي الوقت الذي يبدو به أن دوافع إقرار القانون اقتصادية بحتة فإن دوافعه السياسية لا يمكن إغفالها خصوصاً مع التسخين الذي يجري على وحول تايوان التي تعد "القوة العظمى" الأولى عالمياً في تصنيع أشباه الموصلات وتصديرها.
إن مثل هذه التشريعات التي باتت تصنف على أنها "قوانين موجهة ضد الصين" تلفت انتباهنا إلى أن العولمة وصلت إلى مراحلها الأخيرة، وأن وعود السلام الناجم عن الاعتمادية الاقتصادية تتقلص، ففي أوقات التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى يصبح الاعتماد على الذات سيد الموقف. ومن هنا بدأت القوى العظمى البحث عن إعادة هيكلة اقتصادياتها في سبيل التوجه نحو الداخل لا الخارج كما جرى في العقود الأخيرة.
فالولايات المتحدة تحاول إعادة "الأعمال" إلى الداخل الأمريكي. وهو التوجه الذي أعطاه زخمه الرئيس السابق دونالد ترمب عبر شعاره Make America Great Again، وحربه الاقتصادية والتجارية المفتوحة مع الصين. عززت الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا التوجه الجديد حول الاعتمادية الذاتية، فأوروبا التي وجدت نفسها تقع فريسة الحاجة إلى الطاقة أدركت أن هامش مناورتها ضد روسيا يضيق رويداً رويداً كلما ارتفعت فاتورة الطاقة وأدى ذلك إلى تباطؤ نموها الاقتصادي. ومن هنا باتت تبحث عن طرق تقلل اعتمادها على روسيا من خلال تنويع مصادرها خصوصاً الذاتية.
يعتبر من الصعوبة بمكان التنبؤ بمآلات التوجه الجديد إلى الاعتمادية الذاتية، ولكن يوجد سؤال مشروع هنا: إذا كانت الاعتمادية المتعددة لم تقِ العالم شرور الحرب (روسيا-أوكرانيا) والتنافس الخشن (أمريكا-الصين)، فكيف سيكون الحال مع الاعتمادية الذاتية؟ لا شك أن الدول حينها ستكون في وضعية تسمح لها بأن تكون أكثر جرأة في اتخاذ سياسات لا عقلانية مثل الحرب. ومن هنا فإن الاعتمادية الذاتية ربما تعزز حالة عدم الاستقرار في العالم مستقبلاً.
وبالعودة إلى قانون CHIPS يمكن القول إن التكنولوجيا ستكون في صلب التنافس الدولي مستقبلاً، وربما تكون مصدر نشوء النزاعات. فأشباه الموصلات التي كانت خارج دائرة الاهتمام العام وتنمو بعيداً عن الأضواء، تصدرت وسائل الإعلام والنقاشات العامة أثناء جائحة كورونا. مع زيادة الطلب على الأجهزة الكهربائية والرقمية، حدث نقص في توريد أشباه الموصلات، وهو نقص مستمر إلى الآن. وقد زادت المخاوف استمرار هذا النقص مع اشتداد حمى السياسة التنافسية بين أمريكا والصين في تايوان.
كما تهيمن تايوان على سوق أشباه الموصلات، حيث استحوذت على 60% من إجمالي الطلب على أشباه الموصلات العالمية العام الماضي. يعزى جزء كبير من هيمنة تايوان على هذه السوق الهامة إلى شركتها العملاقة المسماة Taiwan Semiconductor Manufacturing، اختصاراً (TSMC)، وهي أكبر شركة لتصنيع أشباه الموصلات في العالم، وتعتبر شركات عملاقة مثل آبل وQualcomm وNvidia من عملائها.
وقد أظهرت الأرقام أن شركة TSMC استحوذت على 54% من سوق أشباه الموصلات على المستوى العالمي. ولمعرفة هذا الحجم تكفي مقارنته مع ما تنتجه الولايات المتحدة من أشباه الموصلات والذي لا يتعدى 12% على المستوى العالمي، وهو تراجع كبير عمّا كانت تنتجه في عقد التسعينيات حيث كانت تصل النسبة إلى ما يقرب من 36%.
في أي مواجهة عسكرية بين الصين وتايوان ستجد الولايات المتحدة نفسها في موقف لا تحسد عليه، ببساطة لأن عدداً من أسلحتها المتقدمة تكنولوجياً تعتمد على أشباه الموصلات. يرى خبراء أن إمداد أمريكا بالرقائق المتقدمة التي يجري تعريفها أحياناً بأنها رقائق بها ترانزستورات يقل عرضها عن 10 نانومترات، يشكل الدافع الأساسي لتمرير قانون CHIPS. ويعتبر تصنيع هذه الرقائق غاية في الصعوبة والتعقيد، وتحتاج إلى استثمارات طويلة الأمد. ولكنها رقائق لا غنى عنها أبداً. فهي تدخل في صناعة السيارات الذكية والأجهزة اللوحية الذكية وعدد من الأسلحة الذكية منها والتقليدية. والعجيب أن جميع هذه الرقائق تصنع تقريباً في تايوان ولا يصنع أي منها في الولايات المتحدة. ولا شك أن مثل هذه الحقيقية تثير قلق المسؤولين الأمريكيين بشأن احتمال أن يهدد أي غزو صيني محتمل لتايوان إمدادات الولايات المتحدة من هذه الرقائق فائقة الأهمية.
إشكالية الولايات المتحدة أن مثل هذه المصانع المعنية بإنتاج هذه الرقائق تحتاج إلى وقت كبير لدخول السوق والمنافسة من جهة، وتوفير حاجة الولايات المتحدة من جهة أخرى. أكبر المصانع الأمريكية المتوقع إنشاؤها عبر دعم الحكومة المقدم من خلال قانون CHIPS وهي مصنع إنتل في ولاية أوهايو (والذي يمكن أن تصل تكلفته إلى 100 مليار دولار) لن يؤتي ثماره قبل عام 2026. وفي ظل عامل الوقت الحساس هذا، تحاول واشنطن إبطاء النمو الصيني في هذا المضمار من خلال فرض العقوبات الاقتصادية وهو الأمر الذي أثار حفيظة الصين مؤخراً حول مشروع CHIPS فطالبت المشرعين الأمريكيين عبر سفارتها في واشنطن برفض المشروع لأن من شأنه أن يؤجج الصراع التجاري العالمي بين القوتين بما لا يخدم الاقتصاد الدولي.
لقد وضعت إدارة الرئيس ترمب أكبر شركة صينية في إنتاج أشباه الموصلات وتسمى SMIC على قائمة العقوبات السوداء. لقد كانت SMIC خامس أكبر شركة في إنتاج أشباه الموصلات في العالم عام 2020 بعد TSMC وUMC التايوانيتين، وSamsung الكورية الجنوبية، وGlobalFoundries الأمريكية. ومع العقوبات الأمريكية أصبح من الصعب على شركة SMIC الصينية استيراد بعض التكنولوجيات الضرورية التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات. وقد جرى ذلك فعلاً عندما امتنعت شركة ASML الهولندية عن تزويد شركة SMIC ببعض المعدات المتطورة.
قد يكون الطريق نحو الاعتمادية الذاتية محفوفاً بالمخاطر وعدم اليقين، وقد ينظر إلى قطع الصين واردات أشباه الموصلات التايوانية عن الولايات المتحدة من خلال غزو الجزيرة أو ضرب حصار عليها رد فعل لما تفعله الولايات المتحدة من تضييق على الصناعات الصينية، ولا شك بأن هذا التصعيد المتبادل سيهدد الأمن في العالم كله، ومن هنا تكون التكنولوجيا لا المنافسات الجيوسياسية هي المحرك الرئيسي لهذا النزاع العالمي.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.