في الوقت الذي تشتد فيه المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة (والغرب) من جهة والصين من جهة أخرى في العديد من الملفات الاستراتيجية على رأسها السباق التكنولوجي، يصدر عن المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية (ASPI) تقريره السنوي المهم حول تعقب التطورات الحاصلة في قطاع التكنولوجيا الحساسة والذي حمل عنوان "السباق العالمي نحو قوة المستقبل".
وقد أشار التقرير إلى أبرز التوجهات المستقبلية في مجال التكنولوجيا الحساسة، بالإضافة إلى تحذيره من تفوق الصين التكنولوجي على الغرب، وهو ما شكّل مفاجأة من العيار الثقيل للعديد من المراقبين وصُنّاع القرار، حيث بدا أن الفارق بين الصين وأقرب منافسيها (الولايات المتحدة) يتسع بشكل ملحوظ.
وفق التقرير، الذي يتلقى تمويله من الحكومات الأسترالية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وبعض جهات القطاع الخاص، فإن ريادة الصين العالمية تشمل 37 من أصل 44 تقنية حساسة يتتبعها المعهد تتضمن الدفاع، والفضاء، والروبوتات، والطاقة، والبيئة، والتكنولوجيا الحيوية، والذكاء الصناعي، وتكنولوجيا الكم. في حين تقتصر ريادة الولايات المتحدة (وهنا المفاجأة) على سبعة مجالات فقط. يشمل ذلك المجالات المتعلقة بأنظمة الإطلاق الفضائية والحوسبة الكمية.
لم تأتِ هذه الريادة الصينية من الفراغ، فقد أوضح التقرير أن وراء هذا التفوق الصيني مؤسسات بحثية نشطة وفعالة تحظى برعاية الدولة ودعمها الكبير، فعندما يتعلق الأمر ببعض التقنيات الحساسة مثل التكنولوجيا الكمية فإن أهم 10 مؤسسات بحثية في العالم تقع في الصين وتقدم أوراقاً دورية تحظى بتأثير عال على المستوى العالمي بشكل يفوق نظيراتها الأمريكية (التي تحتل المرتبة الثانية) بتسع مرات.
إذا نظرنا إلى بعض الأرقام، تبدو هذه النتيجة منطقية، فوفقاً لشبكة التعليم والبحث الصينية كان هناك ما يقرب من 1.39 مليون خريج في علوم الكمبيوتر والمجالات ذات الصلة في الصين لعام 2020. يشمل هذا الرقم كلاً من شهادات البكالوريوس والدراسات العليا. أما في الولايات المتحدة فقد أفاد المركز الوطني لإحصاءات التعليم أنه في العام الدراسي 2018-2019، جرى منح ما يقرب من 287000 درجة بكالوريوس في علوم الكمبيوتر والمعلومات. وإذا كانت المكانة (البريستيج) في الولايات المتحدة تُمنح لتخصصات من قبيل المحاماة، فإن هذا البريستيج يُمنح في الصين لطلاب الحاسوب وتكنولوجيا المعلومات، وهذا مؤشر إلى الأهمية القصوى التي توليها الصين لقطاع التكنولوجيا في سباقها نحو المكانية العالمية.
ولذلك فليس من المستغرب، وفق تقرير ASPI، أن تحتل الأكاديمية الصينية للعلوم مرتبة عالية (غالباً ما تكون الأولى أو الثانية) عبر العديد من التقنيات الـ44 التي يرصدها التقرير وتنتمي إلى لتكنولوجيا الحرجة. تستثمر الصين كثيراً بالكفاءات البشرية في هذا المضمار. فالعديد من المواهب في قطاع التكنولوجيا، على سبيل المثال، قد درسوا أو تمرنوا في إحدى دول العيون الخمس أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وكندا.
يشير التقرير إلى أن المنافسة محتدمة بين قوى أخرى. فبعد الصين والولايات المتحدة، تتنافس كل من الهند والمملكة المتحدة حيث تقترب القوتان من الريادة التكنولوجية في 29 تقنية من أصل 44، تليهما كوريا الجنوبية وألمانيا حيث تتنافسان على المراتب الخمس الأولى في 20 و17 تقنية على التوالي. تأتي أستراليا في المراتب الخمس الأولى في 9 تقنيات، تليها إيطاليا بسبع تقنيات، وإيران بستة تقنيات، واليابان وكندا بأربعة تقنيات. في حين تحتل روسيا وسنغافورة والمملكة العربية السعودية وفرنسا وماليزيا وهولندا المراكز الخمسة الأولى لتقنية واحدة أو اثنتين. هناك عدد من البلدان الأخرى، بما في ذلك إسبانيا وتركيا، التي تصنف بانتظام في المراكز العشرة الأولى.
بطبيعة الحال، فإن النظر إلى الجانب الكمي في التقرير يجب ألا يلهينا عن الجنب النوعي، فبالرغم من تقدم الصين السريع في العديد من المجالات، إلا أن الولايات المتحدة قد حافظت على الريادة في العديد من التكنولوجيا التي تعد الأكثر حساسية. فمن نقاط القوة التي مازالت تحافظ عليها الولايات المتحدة هي تصميم وتطوير أشباه الموصلات المتقدمة.
كما أنها رائدة في مجالات البحث المتعلقة بالحوسبة الفائقة وتصميم وتصنيع الدوائر المتكاملة المتقدمة. كما أن الولايات المتحدة متقدمة في مجالات التكنولوجيا الحيوية واللقاحات (أي التدابير الطبية المضادة). الدليل على ذلك أن الولايات المتحدة تمتلك معظم براءات اختراع لقاح Covid-19 وتعتبر مركز شبكة التعاون العالمية في هذا المضمار.
كما أنها في مقدمة المجالات الحاسمة للحوسبة الكمومية واللقاحات (والتدابير الطبية المضادة). يتماشى هذا مع التحليل الذي يُظهر أن الولايات المتحدة تمتلك معظم براءات اختراع لقاح Covid-19 وتقع في مركز شبكة التعاون العالمية هذه. المواد الإشعاعية والنووية من خلال توفير التشخيصات والعلاجات الميدانية السريعة (مثل الأدوية المضادة للفيروسات) بالإضافة إلى اللقاحات.
بالعودة إلى الصين، يمكن من خلال التقرير رصد أبرز المجالات التكنولوجية التي باتت تستثمر فيها بكين بشكل ملحوظ وتحرز من خلالها نتائج متقدمة على المستوى العالمي. من أولى هذه المجالات هي الحوسبة الكمية.
تعد الحوسبة الكمومية واحدة من أهم التقنيات الحساسة التي تستثمر فيها الصين، إذ نفذت استثمارات كبيرة في هذا المجال وبنت واحدة من أكبر مرافق البحوث الكمومية في العالم.
في عام 2020، أطلقت الصين أول قمر صناعي للاتصالات الكمومية في العالم، يدعى Micius، القادر على نقل معلومات آمنة للغاية عبر مسافات شاسعة. إن إمكانات الحوسبة الكمومية لكسر خوارزميات التشفير التقليدية لها آثار كبيرة على الأمن القومي ويمكن أن تمنح الصين ميزة هائلة في الحرب الإلكترونية وفق ما جاء في التقرير.
من المجالات الأخرى التي باتت تبدع فيها الصين مجال الذكاء الاصطناعي. تستثمر الصين أيضاً بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي (AI) وقد طورت بعضاً من أكثر تقنيات الذكاء الاصطناعي تقدماً في العالم. وتهدف خطة الذكاء الاصطناعي الوطنية للحكومة الصينية إلى جعل الصين رائدة على مستوى العالم في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على تفوق الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، منها على سبيل المثال، عدد براءات الاختراع.
فوفقاً لتقرير صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، استحوذت الصين على أكبر عدد من طلبات براءات الاختراع للذكاء الاصطناعي المودعة في عام 2019، حيث جرى إيداع 58990 طلباً. ويمثل هذا أكثر من نصف إجمالي طلبات براءات الاختراع المودعة على مستوى العالم في ذلك العام. أما التمويل، فقد استثمرت الصين بكثافة في الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع أن يصل إجمالي الاستثمار في الذكاء الاصطناعي إلى 30 مليار دولار بحلول عام 2022. انعكس هذا على مجال الشركات الناشئة حيث تمتلك الصين 15% من الشركات الناشئة على مستوى العالم في مجال الذكاء الصناعي.
تبرع الصين أيضاً في شبكات الجيل الخامس G5، وهي من المجالات التي تضع الصين في المقدمة في هذا المضمار. لقد كانت شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي في طليعة تطوير شبكات 5G، وكانت الحكومة الصينية تدعم توسعها بشكل كبير. من المتوقع أن تكون تقنية 5G من هواوي أسرع وأكثر كفاءة من المنافسين الآخرين، مما قد يمنح الصين ميزة في مجالات مثل السيارات ذاتية القيادة والمدن الذكية وإنترنت الأشياء.
تشير الأرقام إلى أن لدى الصين حتى مارس/آذار ما يقرب من 700 ألف محطة إرسال لشبكات G5 وهو ما يفوق ما لدى الولايات المتحدة بعشر مرات. أما مشتركو G5 في الصين فيبلغ عددهم 365 مليون مستخدم في 2021 وهو أكبر عدد مستخدمين لهذه التكنولوجيا في العالم. ومن المتوقع أن تستثمر الصين ما يقرب من 150 مليار دولار في هذه التكنولوجيا بحلول 2025.
أخيرا، تحاول الصين تحقيق قفزات كبيرة في مجال التكنولوجيا الحيوية مع التركيز بشكل خاص على تحرير الجينات وأبحاث الخلايا الجذعية. في عام 2018، أثار العالم الصيني هي جيانكوي ضجة دولية، عندما أعلن أنه استخدم التعديل الجيني لإنشاء أول أطفال معدلين وراثيًا في العالم. بينما جرت إدانة هذا الإجراء على نطاق واسع، إلا أنها تؤشر إلى طموحات الصين في مجال التكنولوجيا الحيوية.
يخلص التقرير إلى أن هذه النتائج يجب أن تكون كجرس إنذار للدول الديمقراطية. حسب معدي التقرير فإن المطلوب من الدول الديمقراطية تنفيذ تغييرات في السياسة وزيادة الاستثمار والتعاون العالمي بين العديد من البلدان لسد الفجوة الهائلة والمتسعة مع الصين في المجال التكنولوجي. ستكون تكاليف اللحاق بالركب كبيرة، كما يؤكدون، لكن تكاليف التقاعس عن العمل يمكن أن تكون أكبر بكثير حسب قولهم.